• الموقع : حسن بن فرحان المالكي .
        • القسم الرئيسي : المقالات والكتابات .
              • القسم الفرعي : تغريدات .
                    • الموضوع : الرد على فتوى البراك في موضوع الاختلاط! .

الرد على فتوى البراك في موضوع الاختلاط!


              الرد على فتوى البراك في موضوع الاختلاط!


وخلاصة هذه الفكرة أن القرآن الكريم وهو المصدر المهيمين ليس فيه ذكر لعقوبة الردة الدنيوية وإنما يقرر عقوبة المرتد في الآخرة، وقد ذكر القرآن الكريم عدة قصص فيها ردة ولم يطالب أو يشرع بإنزال العقوبة في المرتدين في عهده (ص)، مما يدل على أن الردة التي يقاتل أصحابها إنما هي الردة الجماعية المستلزمة للانفصال عنة جسد الدولة!

الرد على فتوى البراك:
يجب أن نشير إلى أن فتوى الشيخ البراك وغيرها من الفتاوى المتشددة إنما هي نتيجة وضع تعليمي مختل، ويجب على الدولة إصلاح هذا التعليم بإدخال مادة المنطق في التعليم العام والجامعي، وإلا فسنضطر في كل وقت لدفع الكثير من الخلاف الداخلي على أمور لا تستاهل هذه الانشقاقات الدورية، والشيخ البراك لم يخرج عن الخط العام للتشدد الفقهي الموروث عن ابن تيمية والمدرسة السلفية النجدية، فالأصل فيها هو الغلو، وقد نصحنا في أكثر من مناسبة بأهمية النقد الداخلي وتشجيعه بل تشريعه.
فلو أن الجامعات السعودية تخصص موقعاً ما للنقد الداخلي، ونقد التراث خاصة، لربما أسهمت هذه الدراسات في تخفيف الاحتقان المذهبي فقهاً وعقيدة.. فالغبطة بالغلو وحمايته ومهادنته لن يوقف هذا الغلو عن إقلاق المجتمع من وقت لآخر.
والنهي عن المنكر واجب، ولا منكر أنكر من استحلال الدماء المعصومة، وهذه كتب ابن تيمية والمدرسة الوهابية لا تبقي ولا تذر.. واعتماد السلطة على العلاقات الاجتماعية مع بعض الغلاة من الكبار لا يستطيع أن يوقف البعض الآخر من المغالين في إصدار مثل هذه الفتاوى.
إذن لا بد من حل استراتيجي قائم على المراجعة الدائمة للموروث البشري، وفصل هذا البشري عن التشريع، بحيث لا يصبح عندنا إلا نبي واحد اسمه محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وسلامه.
أما إن كثرت الأنبياء في هذه الأمة واختلفوا وكل يلزم بمنهجه فسيؤدي الأمر إلى اختلاف خطير له نتائجه على الوضع الاجتماعي والعلمي والسياسي.
نقد فتوى البراك:
1- قوله الشيخ البراك : ( فإن الاختلاط بين الرجال والنساء في ميادين العمل والتعليم، وهو المنشود لدى العصرانيين حرام )
أولاً: القول بحرمة الاختلاط قول على الشرع بغير علم، والقول على الله بغير علم هو أعظم إثماً مما يحرمه الشيخ من الاختلاط لو تنزلنا وقلنا بتحريمه،
لأن القول على الله بغير علم من الكبائر إجماعاً، وهو من اتباع خطوات الشيطان والدليل قوله تعالى عن الشيطان:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(169)[البقرة)، وجعل الله القول عليه بغير علم قريناً للشرك كما في قوله تعالى (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)[الأعراف)،
وقال تعالى في حق مثل هؤلاء الذين يستعجلون في التحريم والتضييق على الناس بما أباحه الله لهم وووسع عليهم فيه :
(وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)[النحل)،
والشيخ قد أباح ما حرمه الله من حرمة دم المسلم، وحرم ما أباحه الله من إبقاء الناس على الأصل في الاختلاط الذي الإباحة،
ونحن هنا عندما نقول إن الشيخ حرم أو أباح، لا نقول إن الشيخ فعل هذا عمداً وإنما جهلاً وتأويلاً وظناً منه أن هذا شرع الله، ولا نستطيع أن نقول إنه أفتى بهذا اجتهاداً، لأن الاجتهاد يستلزم بذل الوسع في معرفة الدليل، ولا نراه بذل أي وسع في ذلك، وإنما كرر ما اعتاد عليه غيره من إطلاق التحريم قبل جمع الأدلة والنظر فيها ثم الاستنتاج السليم..
إذن فلو أن متطرفاً اتهم الشيخ بالشرك أو الكفر بهذه الآيات - لقوله على الله بغير علم سواء في إباحة دم المسلم أو في تحريم ما أباحه الله مما لم يرد دليل بتحريمه - لكانت حجته أبلغ من حجة الشيخ في تكفير الملايين من المسلمين بغير حجة أصلاً – كما سيأتي تفصيلاً- ونعوذ بالله من أن نكفر مسلماً ولكننا ننبه الشيخ إلى أننا لو استخدمنا منهجه فسيعود عليه بالتكفير قطعاً لقوله على الله بغير علم ذلك القول الذي قرنه الله بالشرك الأكبر، ولكننا نراعي ونفعل موانع التكفير مثل الجهل والتأويل، فهذه الموانع هي التي منعت الفقهاء من أن يكفر بعضهم بعضاً أو يفتي بعضهم بقتل بعض، لأنهم يختلفون في الأمر الواحد، فمنهم من يرى أن هذا الأمر مباح وذاك يراه محرماً لكنهم يقفون عند هذا الحد ولا يرتبون على اختلافهم تبادلاً في التكفير أو مخالسة بالسيوف،
فمتى كفر أبو حنيفة مالكاً أو العكس؟
ومتى كفر مالك سفيان الثوري أو العكس؟
ومتى كفر الشافعي أبا يوسف أو الشيباني أو العكس؟
وكل هؤلاء مختلفون في كثير من الأمور التي هي أعظم من مسألة الاختلاط ، ولكنه لم يستفد من منهجهم في سعة الأفق واعتراف بعضهم بإسلام بعض وحقوقه في الاجتهاد وفق المنهج الذي يراه أقرب إلى مراد الله ورسوله، وهنا لا نكفر الشيخ ولا نفسقه ولا حتى نحكم عليه بالإثم رغم خطورة الفتوى لماذا؟
لأننا لا نعيش في عقل الشيخ ولا قلبه، ولا ندري هل قال هذا استجابة للعادة، أو عصبية لفئة، أو تحريضاً من دهماء، أو تقليداً لفقيه، أو حرصاً على الفضيلة، أو ردة فعل لسوء اختلاط قد علمه، أو خشية من مستقبل يجهله.. الخ، فالله وحده هو من يعرف نيته وظروفه ومدى إدراكه للمسألة ومدى بذله للطاقة في معرفة الحكم الشرعي،..
لذلك نحكم على الفكرة بالخطأ والخطورة والضلالة والغلو والتطرف والعنت ولا نحكم على شخصه بشيء، لا نزعم أنه اجتهد ولا أنه لم يجتهد – مع أن ظاهر الفتوى لا تتوفر فيها شروط الاجتهاد- ، ولكننا نتمحل للشيخ الأعذار وعذرناه لوجود حقيقة جهل أو شبهة تأويل، أو لاجتماع الأمرين فيه ( الجهل والتأويل) رغم فداحة الفتوى وخطورتها، مع أنه لم يرقب في المخالفين له في الرأي إلّاً ولا ذمة ولا إسلام ولا تأويل ولا جهل ولا اضطرار .. وإنما خبط بفتواه خبط عشواء مستأنساً بأن بعض العلماء قد سبقه بذلك، وهو يعرف أن المقلد لا يسمى فقيهاً ولا عالماً بالإجماع، والشيخ لم يبحث الموضوع من النصوص الشرعية وواقع السيرة النبوية، وهذا تهاون بالنصوص الشرعية وتعظيم ما عليه الوضع العلمي من عادات التقليد .
ثانياً: الاختلاط غير محرم:
وهذه سنة النبي (ص) وسيرته بين أيدينا، كان اختلاط الناس في عهده (ص) أظهر من أن يخفى، سواء في الجهاد أو الصلاة المسجد أو أماكن الوضوء أو المزارع أو الحج والطواف والسعي بين الصفا والمروة ومناسبات الأفراح والأحزان، نعم هناك بعض الآراء والآثار الضعيفة استجابة لسنة سنها بعض حكام بني أمية في الفصل بين النساء والرجال حتى في الطواف، ولكنهم هشام بن عبد الملك وأمثاله ليسوا أنبياء، هم حكام يهتمون بصغائر الأمور كالغناء ولبس جلود السباع والاختلاط لكنهم يرتكبون العظائم، ولا حجة في أفعالهم وسننهم حتى لو كانوا صالحين، إنما الحجة في النص القرآني والنبوي الصحيح، علماً بأن الأصل في الأشياء الإباحة وليس التحريم، فلا ننتقل من الأصل إلى بدليل صحيح صريح :
الأدلة:
1- ففي صحيح البخاري - (ج 1 / ص 82) عن عبد الله بن عمر أنه قال : كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم جميعاً اهـ
وهناك أخبار وألفاظ تندرج تحت هذا الحديث في موضوع الوضوء، ومن ذلك :
في السنن الكبرى للبيهقي - (ج 1 / ص 190) :
عن عبد الله بن عمر قال: كنا نتوضأ نحن والنساء من إناء واحد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ندلى فيه أيدينا اهـ
وفي جامع الأحاديث - (ج 36 / ص 387): عن ابن عمر قال : رأيت الرجال والنساء يتوضؤون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد (سعيد بن منصور) أخرجه أيضًا : أحمد (2/4 ، رقم 4481) ، وأبو داود (1/20 ، رقم 79) ، وابن خزيمة (1/102 ، رقم 205) ، وابن الجعد (1/443 ، رقم 3021) ./ وفي جامع الأحاديث - (ج 36 / ص 437):
وعن ابن عمر قال : كان الرجال والنساء جميعا يتوضؤون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الميضأة ) أخرجه النسائى (1/57 ، رقم 71)/
وفي مصنف عبد الرزاق - (ج 1 / ص 75) عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع عن بن عمر قال كنا نتوضأ نحن والنساء معا اهـ/
وفي جامع الأصول من أحاديث الرسول - (ج 1 / ص 5108) (د) أم صُبية الجهنية - [خولة بنت قيس] - رضي الله عنها - : قالت : «اخْتَلَفتْ يدي ويَدُ الرسولِ -صلى الله عليه وسلم- في الوضوء من إناء واحد ». أخرجه أبو داود /
وفي صحيح البخاري - (ج 5 / ص 2002) عن أسماء بنت أبي بكر: ( وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه و سلم على رأسي وهي مني على ثلثي فرسخ فجئت يوما والنوى على رأسي فلقيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعه نفر من الأنصار فدعاني ثم قال ( إخ إخ ) . ليحملني خلفه قاستحييت أن أسير مع الرجال وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس فعرف رسول الله صلى الله عليه و سلم أني قد استحييت فمضى .. الحديث) وهذا نص في إباحة الخلوة فكيف بالاختلاط؟
والحديث في صحيح مسلم أيضاً ( 4/ 1716)
وهو في مسند أحمد وصحيح ابن حبان والنسائي وطبقات ابن سعد وغيرها من المصادر.
وأما في الجهاد
فأمر أظهر من أن يبين، يداوين الجرحى وبعضهن يقاتلن كأم عمارة، والإجماع على مداواتهن للجرحى مع كثرة الموالي والخدم يومئذ دليل على أن الأمر أوسع مما يتصور البعض،
وقد بوب البخاري في صحيح البخاري - (ج 3 / ص 1055): باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال اهـ
وذكر عدة أحاديث في ذلك، وكذلك فعل مسلم في صحيحه ( 3/ 1442)،
وأما في الصلاة في المسجد الواحد
فظاهر أيضاً، وفي المصلين من يتأخر عن الحضور، وفي النساء من يتقدم، وكانت النساء في آخر المسجد والرجال في أوله، وكان المسجد صغيراً أصلاً،
وكذلك الاختلاط في الأسواق أشهر وأظهر من أن يبين، وكان النساء يبعن في الأسواق، وكذلك في الأفراح..الخ.
تنبيه: لا تجعل هواك شرعاً:
يجب التفريق بين العادة والشرع،
فنحن قد نكون مع الشيخ في الواقع التطبيقي فيما نطبقه على من نعول من أهلنا، لكننا لا نزعم أن فعلنا هو شرع من الله، ولا ننكر على من فعل المباح، وإنما نقول هذه عادتنا وأعرافنا ولا نطمئن لاختلاط في سوق ولا في مدرسة ولا مسجد، ونمنع نساءنا من حضور الجمع والجمعات والأعياد ليس لأن هذا غير مباح أو مشروع، وإنما هذا تطبيقنا وأفعالنا فحسب..
وهناك فرق بين من يترك الشيء احترازاً ويرى بقاء الفعل مباحاً، ومن يجعل فعله واختياره وتحرزه وتحرجه شرعاً إليهاً..
2- ثم قال معللاً فتواه بتحريم الاختلاط ( لأنه يتضمن النظر الحرام والتبرج الحرام والسفور الحرام والخلوة الحرام والكلام الحرام بين الرجال والنساء، وكل ذلك طريق إلى ما بعده)
نقول: هذا القول عجيب، وفيه استهتار بالفتوى، لأن هذا أشبه بالإنشاء منه بالفتوى، لأن كل هذه الأمور فيها تفصيل، والمراد بها عند الشيخ غير المراد بها في الشرع،
فمجرد إظهار الوجه عند الشيخ يعني التبرج والسفور والحرام كله، والدين أوسع من هذا، والجميع يعلم أن هذه الأمور محل اختلاف، والأكثرية من علماء المذاهب الإسلامية على إباحة ظهور الوجه والكفين للمرأة، بل وبعضهم على عدم التشدد في مسألة شعر المرأة وأن هذه بحسب العادة، فقد يظهر القليل أو الكثير حسب العادة،
إذن فالنظر الحرام فيه تفصيل والتبرج تبع له فيه تفصيل، وهو عند الشيخ غيره في الشرع، والسفور عند الشيخ هو غير السفور في الشرع،
والكلام بين الرجال والنساء ليس حراماً مطلقاً وإنما فيه تفصيل، فيه الحرام وفيه المباح، ولا يلزم وجود الحرام هنا، وإنما يحرم خضوعهن بالقول والكلام الفاحش ونحو ذلك مما هو أقل من القول على الله بغير علم،
ولو نستعرض السيرة النبوية لرأينا فيها كل هذا موجود، وإنما أمر الشرع بتهذيب هذا الاختلاط من تحريم الخضوع بالقول أو الرفث ..الخ،
ولو سئل الشيخ عن الاختلاط في ميادين الجهاد وفي الأسواق وفي الوضوء في عهد النبي (ص) ماذا سيقول؟
هل يقول بحرمة هذا الكلام بينهم ويطلق عليه التبرج والسفور؟..
التفصيل في الخلوة:
الأصل في الخلوة الإباحة إذا كان الهدف نبيلاً ( ولا تواعدوهن سراً إلا أن تقولوا قولاً معروفاً)
نعم لم يذكر من الأمور التي فيها دليل قوي نسبياً إلا الخلوة، لإشهارهم حديثاً ضعيفاً وسياتي
فالخلوة فيها تفصيل، فلا يلزم من التعليم المختلط الخلوة،
ولا يلزم الاختلاط في الأسواق والأفراح والجهاد والصلاة والطواف والسعي... الخ لا يلزم من كل هذا الخلوة..
وكان باستطاعة النبي (ص) أن يبني جداراً بين المصلين من الرجال والنساء لو أراد كما نبني اليوم، بل كانت مجرد ستارة كافية في الفصل، ومع ذلك لم يفعله النبي (ص) لأنه يعرف أن التنطع في هذه الأمور سيقود المجتمع إلى سفاسف الأمور وصغائرها، ومتى نزلت همة مجتمع إلى الانشغال بالصغائر فقد عظمته، وهذا فيه تدريب القلوب على الحياء والمروءة والشيم.
وقد نقل عن الإمام زيد بن علي منعه النقاب قال : ( أخشى أن تذهب المروءة من قلوب الرجال).
و لكننا نعترف للشيخ هنا بأن التعليم المختلط قد تحدث فيه الخلوة بين معلم وطالبة أو طالب وطالبة وقد لا تحدث - بحسب طبائع الناس-
فإن خلا معلم بطالبتين فما فوق فلا خلوة،
وإذا كان الباب مفتوحاً فلا خلوة وإن مع طالبة،
وإن كان في مقهى فلا خلوة،
الخ
فالخلوة إنما تكون في المكان الذي يمكن أن يمارس فيه الفاحشة، وحتى هذه لو تحدث فلا يجوز الجزم بالتحريم، فقد تحدث عرضاً أو لحاجة مباحة أو قدوم ضيف، وفي السيرة النبوية قصص من هذا، نتركها للاختصار
حديث : لا يخلون رجل بامرأة ضعيف.
وأما فحديث ( لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) - لو صح- فليس نصاً في تحريم الخلوة وإنما في التحذير من وساوس الشيطان، فالشيطان في الأسواق مثلاً والتحذير من وساوسه في البيع والشراء جاءت فيه أحاديث كالتحذير من الخلوة،
وهذا لا يعني أن التسوق حرام أو أن الخلوة حرام،
ثم الفقهاء لا يتشددون إلا في خلوة الفاسق، وليس في أي خلوة (قال المرداوي الحنبلي في كتابه المشهور: الإنصاف - (ج 14 / ص 329) : وَقَالَ الْقَاضِي (يعني أبا يعلى كبير الحنابلة) : مَنْ عُرِفَ بِالْفِسْقِ : مُنِعَ مِنْ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ) أي وأما من لم يعرف بالفسق فالتعويل على الرقابة الذاتية، والإسلام يبقي مجالاً واسعاً للأخلاق والرقابة الذاتية ولا يعمل على التدخل عملياً في كل شئون الإنسان، ولذلك فمعظم الكبائر ليس فيها عقوبة شرعية، إنما العقوبات الشرعية هي في قليل من المحرمات كقتل النفس والقذف والزنا والسرقة والمحاربة والبغي.. أما بقية المحرمات السبعين فلا عقوبة دنيوية فيها، وإنما هي متروكة للشخص نفسه ليصلح نفسه، فلا عقوبة دنيوية في الكذب مثلاً ولا الحسد ولا الغيبة ولا النميمة ...الخ .
3- وأما ما ذكره عمن أسماهم بــ( العصرانيين): من أهداف النزعة إلى التغريب وإرادتهم اتباع الشهوات.. فهذا لا شأن لنا به لأننا لسنا في مقام الدفاع عن أحد، ولأنه قول بالظن ينقصه التفصيل، والتنابز بالألقاب ليس من الشرع في شيء، .. ولكن هذا شيء وما صدر عن الشيخ شيء آخر، وقد أتفق مع الشيخ بأن بعض الناس تكون له نية سيئة، وهذا موجود في كل مجتمع، حتى مجتمع النبوة لم يخلُ من المنافقين،
وليس الإنكار على الشيخ في تحريم الاختلاط أو الخلوة – وإن كان مرجوحاً- فهو في الأخير رأي فقهي، ولا في تحذيره من بعض الناس ممن يرى أنهم خطر على عفة المرأة ووظيفتها مع أن سوء الظن قد يسبق إلى التعميم، إلا أن هذا كله في دائرة الاختلاف المباح،
وإنما محل الإنكار هو ما رتب على هذا التحريم من تكفير للآخرين ودعوة لاستباحة دمائهم فهذا هو سبب ردنا هذا، مع علمنا بأن الموضوعات التي كفرهم لأجلها لا ينفردون بها، أعني أن هناك من علماء المسلمين من يوافق هؤلاء الذين أسماهم بالعصرانيين على إباحة الاختلاط مستدلين بالواقع في العهد النبوي، فليس كل من يرى إباحة الاختلاط من العصرانيين أو الليبراليين أو العلمانيين مع أن هذه الألقاب فيها تفصيل وهم طبقات،
كما أن الشيوخ والدعاة فيهم تفصيل أيضاً، وليس كل ما يطرحه هؤلاء أو هؤلاء باطلاً مطلقاً ولا حقاً مطلقاً، ثم هؤلاء العصرانيون كانوا يطرحون مسألة تعليم المرأة والتعليم النظامي وتطوير المجتمع في أمور كثيرة تأخر فيها الشيوخ والدعاة حتى أتت بغير رضاهم، فهذا يحسب لهم أيضاً، وتبين أنهم مصيبون في ذلك،،
والأفكار ليس لها علاقة بمذاهب معينة أو تيارات فكرية، وإنما هي الرؤى تختلف من شخص لآخر، ..ربما
لكن هذا أضعه في جانب فعل العادة والعرف ولا أضعه في الشرع،
ولا أزعم أن أفعالي ومشاعري ووساوسي كلها تنبع من الشرع،
فضلاً عن تكفير واستباحة دماء من لا يتفق مع مشاعري واختياراتي في الحياة الاجتماعية،
ولا ألزم الناس باختياراتي العملية ولا تقليد ما عليه الوضع العلمي المذهبي في المملكة.
4- أما قوله: ( ومن استحل هذا الاختلاط وإن أدى لهذه المحرمات فهو مستحل لهذه المحرمات ومن استحلها فهو كافر، ومعنى ذلك أنه يصير مرتداً ... فإن رجع وإلا وجب قتله ..الخ)
نقول: سبق أن الاختلاط غير محرم أصلاً، وقول الشيخ هنا باطل، فكم من أمر مباح أو مشروع قد يؤدي إلى بعض الحرام ولا يصبح حراماً في ذاته، فصلاة المرأة في المسجد مثلاً مشروع إجماعاً ومع ذلك قد يؤدي إلى محرمات جانبية كأن تتعرض بعض النساء للمضايقات في الطريق إلى المسجد، وقد يقوم بعض الرجال بشيء من هذا، فلا يبطل هذا الأصل من إباحة صلاة المرأة في الرجل،
وكذلك جهاد المرأة مع الرجال قد يؤدي إلى محرم عند بعض النساء والرجال فلا يصبح الأصل محرماً،
وكذلك الاختلاط في الطواف والسعي والمسجد الحرام، فبعض ضعفاء النفوس من الشباب والفتيات قد يتواعدون في الالتقاء عند البيت الحرام ثم يذهبون إلى مكان لممارسة الفاحشة، فلا يعني هذا أن نمنع النساء من الدخول إلى الحرم، ولا يعني حرمة طواف المرأة في المسجد الحرام أو صلاتها فيه ..
فهذا المنطق الذي ذكره الشيخ غريب جداً، فعندما يفتي أحد بإباحة أمر فإنه يفتي بإباحة هذا الأمر في نفسه، فإذا تم استغلاله فلا يجوز تحريم الأصل، مثل إباحة زراعة العنب والنخيل، فإذا وجدنا أن بعض السفهاء يصنعون من العنب والتمور خموراً فلا يجوز أن نحرم الأصل لشذوذ الفرع، ولو سرنا على مذهب الشيخ لما بقي أمر مباح، ولو توسعت في ذكر القصص والأمثلة لطال بنا المقام.
وأما قوله ( وإن أدى لهذه المحرمات) فكل ما ذكره ليس من المحرمات، أو على الأقل ليس هناك اتفاق على تحريمه، بل هو من الأمور الخلافية، ككلام الرجل مع المرأة أو كشف الوجه والكفين أو حتى الخلوة .. فلا إنكار في مسائل الخلاف، فضلاً عن التكفير واستحلال الدماء.
ثم ما ذكره الشيخ ما خلاصته :
أن من يرى إباحة الاختلاط فإنه يصير مرتداً لأنه أنكر معلومات من الدين بالضرورة .. هذا عجيب وقد سبق الرد على هذا، بأن اختلاف الفقهاء الكبار في مسائل التحريم والإباحة لا يحل بعضهم دماء بعض، والأمور المعلومة من الدين بالضرورة هي الأمور الكبار التي عليها إجماع المسلمين كالإيمان بالله واليوم الآخر وحرمة الظلم وحرمة القول على الله بغير علم ..الخ.
ولو ذهبنا مذهب الشيخ لقنا إن الشيخ استحل دماء المسلمين وحرمة الدماء مما يعلم من الدين بالضرورة وعلى هذا فهو كذا وكذا ويجب استتابته وإلا قتل ..الخ فهذا المنطق هو منطق الغلاة عبر التاريخ، فهم يستحلون الدماء بمثل هذه القفزات التي لا تراعي العلم ولا طريقة خروج الفتوى..
والمعلوم من الدين بالضرورة لا يعني المعلوم من المذهب بالضرورة، والشيخ يخلط بين الأمرين، فالمعلوم من الدين بالضرورة إنما يكون في الأمور المعلومة بالنصوص الشرعية الصريحة والواضحة ويكون متفق عليها بين المسلمين، كالأمثلة التي سبق ذكرها كوجوب الصلاة والحج وتحريم الظلم والسرقة والكذب ..
بل حتى هذه وإن كان إنكارها كفراً وردة إلا أنه لا دليل شرعياً صحيحاً على وجوب قتل المرتد الردة الفردية، إنما الواجب قتال المرتدين ردة جماعية تقتضي الانفصال عن الدولة، لأنه ( لا إكراه في الدين)، وحرية الاعتقاد مقررة في القرآن الكريم، وهذا موضوع يمكن التوسع فيه لاحقاً،
وخلاصة هذه الفكرة أن القرآن الكريم وهو المصدر المهيمين ليس فيه ذكر لعقوبة الردة الدنيوية وإنما يقرر عقوبة المرتد في الآخرة، وقد ذكر القرآن الكريم عدة قصص فيها ردة ولم يطالب أو يشرع بإنزال العقوبة في المرتدين في عهده (ص)، مما يدل على أن الردة التي يقاتل أصحابها إنما هي الردة الجماعية المستلزمة للانفصال عنة جسد الدولة.
التيسير عند الحاجة:
ثم الفقهاء – وإن لحقهم ما لحقهم من التشدد الاجتماعي- إلا أنهم قد يقدرون الحاجة وييسرون عند وجودها، فمثلاً نجد في -المغني - (ج 15 / ص 81):
(قَالَ أَحْمَدُ : لَا يَشْهَدُ عَلَى امْرَأَةٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَهَا بِعَيْنِهَا، وَإِنْ عَامَلَ امْرَأَةً فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ، فَلَهُ النَّظَرُ إلَى وَجْهِهَا ، لِيَعْلَمَهَا بِعَيْنِهَا ، فَيَرْجِعَ عَلَيْهَا بِالدَّرَكِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ كَرَاهَةُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الشَّابَّةِ دُونَ الْعَجُوزِ ، وَلَعَلَّهُ كَرِهَهُ لِمَنْ يَخَافُ الْفِتْنَةَ ، أَوْ يَسْتَغْنِي عَنْ الْمُعَامَلَةِ ، فَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِ الشَّهْوَةِ ، فَلَا بَأْسَ )
قلت: وعلى هذا يقاس في التعليم والطب ونحوه.
وساوس الفقهاء:
وأما من أراد تتبع الشدائد، فسيجد من الفقهاء من يحرم خلوة المرأة بالحيوان، ونحو ذلك.. وهذه وسوسة زائدة، ومن الأمثلة على ذلك:
1- منهم من حرم مصافحة النساء حتى للمحارم واستثنى بعضهم الوالد! ..
التوثيق: (( الإنصاف [ جزء 8 - صفحة 32 ] مصافحة النساء / ومنها : كره الإمام أحمد رحمه الله مصافحة النساء وشدد أيضا حتى لمحرم وجوزه لوالد اهـ وهذا تطرف واضح ليس عليه دليل.))
2- ومنهم من حرم خلوة المرأة بذكور الحيوانات وخاصة الجميل منها كالقرد!
التوثيق (( الإنصاف [ جزء 8 - صفحة 31 ] ومنها : تحرم الخلوة لغير محرم للكل مطلقا ولو بحيوان يشتهى المرأة وتشتهيه هى كالقرد ونحوه / ذكره ابن عقيل و ابن الجوزى و الشيخ تقي الدين رحمه الله اهـ قلت: تقي الدين هو ابن تيمية.))
3- ومنهم من حرم خلوة الرجل بإناث الحيوانات !
انظر ما قبله
4- ومنهم من حرم نظر الرجل أو المرأة إلى الدابة ..
ما قبله
5- ومنهم من حرم النظر إلى صورة المرأة ومن نهى عن إمامة الرجل للمرأة إلا لمحارمه وفي بيته!
التوثيق (الإنصاف - (ج 12 / ص 222)فَائِدَةٌ : قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : يَحْرُمُ النَّظَرُ مَعَ شَهْوَةِ تَخْنِيثٍ وَسِحَاقٍ ، وَإِلَى دَابَّةٍ يَشْتَهِيهَا وَلَا يَعِفُّ عَنْهُ ، وَكَذَا الْخَلْوَةُ بِهَا ، قَالَ فِي الْفُرُوعِ : وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ اهـ
6- ومنهم من حرم سماع المرأة لصوت الرجل والنظر إليه ..
التوثيق : ((التوثيق : ((الإنصاف [ جزء 8 - صفحة 31 ] قال القاضي في الجامع الكبير : قال الإمام أحمد رحمه الله فى رواية مهنا : لا يعجبني أن يؤم الرجل النساء إلا أن يكون في بيته يؤم أهله أكره أن تسمع المرأة صوت الرجل /قال ابن خطيب السلامية في نكته : وهذا صحيح لأن الصوت يتبع الصورة ألا ترى أنه لما منه من النظر إلى الأجنبية منه من سماع صوتها / كذلك المرأة لما منعت من النظر إلى الرجل منعت من سماع صوته! اهـ
وغيرها كثير من الغرائب فمن تتبعها وتشدد فقد حجر واسعاً..
ونحن لا نريد تتبع الغرائب والشدائد.. إذ لو فعلناها لتم تكفير العلماء والدعاة قبل غيرهم، لأنهم مقلدون في الجملة، ويمكن للمتطرف أن يكفر المقلدين ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ....الآية التوبة 31..)
وربما يكفر نفسه لأنه مقلد.. ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه..
كما أن الاهتمام بالصغائر والتشدد فيها إنما هي نتيجة سياسية نتجت عن غلبة الظلم على معظم فترات التاريخ الإسلامي،
فكان مثل الحجاج وبني مروان يتشددون في صلاة الجماعة مثلاً أو في تحريم الغناء وتحريم قصة المرأة ( الباروكة) ..الخ لإشغال الناس وصرفهم عن التجاوزات والمظالم والحقوق المهدرة،
فهؤلاء الغلاة هم قادة الخلافات الصغيرة، ومن أبعد الناس عن النظر في المظالم الكبرى وحقوق الإنسان وبناء المجتمع على أسس من الحرية و الحقوق والعدالة والعلم.
والموضوع يحتاج لبسط أكثر من هذا .....
خذوها قاعدة:
من وجدتموه يتشدد في الصغائر ، فاعلموا أنه في الغالب يرتكب العظائم من الكذب واستباحة الدماء والعداوة والبغضاء والقول على الله بغير علم.
هذه صناعات الشيطان وهي غاية في التلبيس والخفاء ...فاحذروا منها وكونوا على بينة.

  • المصدر : http://www.almaliky.org/subject.php?id=1362
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 04 / 23
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29