• الموقع : حسن بن فرحان المالكي .
        • القسم الرئيسي : المقالات والكتابات .
              • القسم الفرعي : تغريدات .
                    • الموضوع : من روائع التوصيفات الاجتماعية في القرآن – الغَمْرة! .

من روائع التوصيفات الاجتماعية في القرآن – الغَمْرة!


        من روائع التوصيفات الاجتماعية في القرآن – الغَمْرة!


والخراص صيغة مبالغة من الخارص؛ فالخراصون إذاً؛ هم هؤلاء الذين يجمعون الغث والسمين من الأقوال والأفعال والتصورات والتخيلات..الخ؛  لا يتحققون، ولا يتبينون؛ وهذا مؤذن بالهلاك؛ فقوله (قتل الخراصون) أي أُهلكوا. مثل (قُتل الإنسان ما أكفره)؛ هو دعاء عليه بالهلاك.. والهلاك قد يكون مادياً أو معنوياً؛ كالتخلف والفقر والجهل!

الغمرة، من الفعل غمر، تعرف المعنى من قولك: فلان غمره الماء، السيارة غمرتها السيول.. الخ. وقد وصف القرآن الخراصين (الذين هم في غمرة ساهون)؛ وذم المغمورة قلوبهم (بل قلوبهم في غمرة)؛ فما الغمرة؟ وما أسبابها وصفتها؟  وكيف نتجنبها؟
في الآيتين: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11)} [الذاريات] جواب على هذه الأسئلة كلها؛ فما معنى الآيتين؟
يقول المفسرون (قتل الخراصون) أي الكذابون، وهذا غير دقيق..
الخراصون هم الذين لا يتحققون، يجمعون ما في صالحهم من كذب وصدق. وهذا هو الخرص.
وهذا المعنى للخرص مازال عندنا في الجنوب، يقولون: اخرص هذا الغصن، فتضع يدك على أصل الغصن وتمررها إلى آخر الغصن؛ فتأتي على كل الأوراق والثمار؛ فخرصك الغصن؛ تقطع فيه الصالح والفاسد من الثمار والأوراق والأشواك.. وبحركة واحدة؛ لا انتقاء فيها ولا تحقق.
الكذب كأن فيه انتقاء وحبكة عن قصد. ولذلك؛ قالوا عن خارص النخل خارصاً؛ لأنه يبني على تقدير وعجلة؛ وليس عن تحقق؛ كَوَزْنِ أو كَيل أو حساب أو عَدٍّ..
والخراص صيغة مبالغة من الخارص؛ فالخراصون إذاً؛ هم هؤلاء الذين يجمعون الغث والسمين من الأقوال والأفعال والتصورات والتخيلات..الخ؛  لا يتحققون، ولا يتبينون؛ وهذا مؤذن بالهلاك؛ فقوله (قتل الخراصون) أي أُهلكوا. مثل (قُتل الإنسان ما أكفره)؛ هو دعاء عليه بالهلاك.. والهلاك قد يكون مادياً أو معنوياً؛ كالتخلف والفقر والجهل؛ والآية {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}، هو دعاء إلهي على الجَمّاعين،  الذين يصدقون ما يحبون تصديقه؛ بلا تبين ولا حرص على الصدق، فهم في غمرة ساهون؛ والغمرة هذه تسبب لهم السهو؛ والسهو غير النسيان..
السهو يشبه الغفلة مع نسيان الواضحات التي يمكن تذكرها بسهولة؛ أما النسيان؛ فمختلف كما سيأتي.
الساهي يسهو بسبب الآخرين؛ والناسي ينسى بفعل نفسه؛ ولذلك؛ قال {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)} [الماعون]
فالساهون يراؤون = يهمهم الآخر، يراؤون له، ويكونون في غمرة بسبب  هذا الآخر، تغمره مواقف الآخرين وتجعله ساهياً عما يجب أن يتذكره.
فالساهون يعيشون خارج أنفسهم = انغمار ورياء.. والفعل ( س هـ ى) يدل عليه، ففيه انسلال وامتداد؛ بينما ( ن س ي ) فيه نشوء ثم انسلال مكاني.
السهو - في القرآن - مذموم كله؛ على قلة وروده = ورد مرتين؛ بينما النسيان مادة واسعة في القرآن؛  ومنه  اليسير المغفور؛ ومنه العميق المذموم.
النسيان اليسير المغفور؛ كنسيان آدم؛ ومنه (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)؛ أما المذموم؛ فمثل (نسوا الله فنسيهم) و (ونسي ما قدمت يداه)؛ فالسهو أقرب للغفلة؛ و كذا في الصحاح  (6/ 2386) : والسَهْوُ: الغفلة. وقد سَها عن الشئ يسهو فهو ساه وسهوان).
والساهي فيه مسايرة؛ بخلاف الناسي؛ ولذلك؛ قال الإمام علي عن عمار: (مؤمن نسيٌّ وإذا ذُكِّر ذَكر)؛ فالناسي بهذا المعنى؛ قد يكون محموداً، لا يجامل إذا ذكر؛ بخلاف الساهي؛ فهو يراءي.. وقيل عن البغلة والناقة المريحة والسرير المريح والمرأة: (سهوة)، لهذا المعنى.
ففي المحكم (4/ 406) والسَّهْوَةُ من الْإِبِل: اللينة الوطيئة.
وفي المحكم  (4/ 406): كل لين سَهْوٌ، وَالْأُنْثَى سَهْوَةٌ، والسَّهْوُ: السهل من النَّاس والأمور والحوائج  اهـ
وهذا معنى الساهين المرائين؛ فالساهون يراءون، ويكونون للكذابين والمنافقين كالبغلة والسهوة والناقة .. الخ؛ لأنهم يراءون، ليس لهم استقلال؛ إنما يخرصون؛ فهم في غمرة ساهون..
وهنا؛ لا يحتج محتج بسجود السهو ، وأن الإنسان قد يسهو، ... فهذا صحيح؛ ولكنه؛ ليس المعنى المذموم قرآنياً، وإن اشترك معه في الغفلة لا النوع.
والشيء بالشيء يذكر، أيضاً الفرق عندنا بين (القعادة= السرير)؛ و (السهوة) أن القعادة مرتفعة صعبة المرتقى، بينما السهوة نازلة؛ هينة سهلة؛ فالغمرة تأتي من الآخرين؛ فيتحول المراؤون إلى ساهين مغفلين يسهل ركوبهم بالمعلومات الخليطة (الخرص)؛ فتغمرهم؛ ويصبحون في غمرة ساهون.
ومن علامات أهل (الغمرة)؛ أنهم  المتحزبون المطمئنون بأحزابهم، الذين يغترون بالنعيم، ويغفلون عن وحدة الأمة والتقوى،
اقرءوا الآيات التالية:
{وَإِنَّ هَـذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴿٥٢﴾ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴿٥٣﴾ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ﴿٥٤﴾ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ﴿٥٥﴾ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ ﴿٥٦﴾} [المؤمنون]
هؤلاء هم أهل الغمرة؛ غمرهم  خليطة المعلومات المتخرصة، مع نعمة  ظنوها من الله؛ رضىً وإقراراً، بينما الله يبلو بالشر والخير فتنة ليمحص الناس.
وذكر الله (الغمرة) وصفات أهلها في موضع آخر؛ قال تعالى:
{ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ﴿٦٤﴾لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ ﴿٦٥﴾ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ ﴿٦٦﴾ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ﴿٦٧﴾ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ﴿٦٨﴾ } [المؤمنون]
احذروا الغمرة ... تتجنبوا صفة الساهين الغافلين.
وأخيراً؛ حاول أن تتجنب أن يغمرك أحد - أياً كان – بالتخرص؛ فتش؛ تحقق؛ تبيّن؛ تذكر (ولا تقف ما ليس لم به علم)؛ أكثر من قول: "لا أدري"؛ تخرج من الغمرة.
سأذكر - وأجري على الله - نماذج من الغمرة، في الحروب اليوم؛ وأرجو أن تجربوا الخروج من (الغمرة) وتقولون: هذا خطأ؛ أو؛ هذا صحيح..
نحتاج لكلمة حق؛ ففي حرب سوريا؛ مثلا؛ لا يتكلم أنصار الرئيس السوري عن مساويء النظام وقصف بعض سيارات المساعدات الخ؛ وكذلك أنصار المعارضة؛ لا يتحدثون عن مساوئهم؛ وإنما؛ تجد كل طرف (في غمرة) من الاستسلام لطرف؛ وتصديقه في كل ما يقول عن الطرف الآخر..
طيب..
أين أنت؟
لماذا لا تفرز وتميز وتتحقق وتتثبت؟
وكونك من أنصار الرئيس السوري؛ أو من معارضيه؛ هذا كله لا يعفيك من التحقق في كل هذه الأخبار المتدفقة من فريقك؛ وإن عجزتَ؛ فقل "لا أدري"؛ الله أعلم..
وكذلك الحال في العراق؛ تبرئة مطلقة لهذا الفريق (غمرة في التخرص)؛ وذم مطلق لهذا الفريق (غمرة مماثلة)، حاول أن تتحقق؛ أو قل: "لا أدري".
كونك مع هذا الفريق – سياسياً - أو مع ذلك؛ لا يعني أنه يباح لك أن تصدق الكذب أو ترد الصدق؛ فالموقف الأخلاقي قبل الموقف السياسي؛ والشهادة لله قبل.
وكذلك في حرب اليمن؛ تجد أحدهم لا يذكر حسنة لهذا الفريق ولا سيئة لفريقه؛ مع أن الموقف السياسي لا يجبرك على تصديق كذب ولا رد صدق؛ إنها الغمرة؛ بل بعضهم يزايد على أطراف النزاع؛ فقد يعترف طرف من النزاع بأمر، أو يبرؤون منه، أو يعتذرون عنه؛ ويبقى أصحاب الغمرة (في غمرة ساهون)؛ وهذا مؤسف.
المطلوب هنا؛ هو التفتيش والتحقق؛ وليس المطلوب ألا تكون مع طرف ما؛ فقول الله (ولا تكن للخائنين خصيماً)؛ نهي لنبيه أن يخاصم عن صحابة ضد يهود. والقرآن مليء بمثل هذه الآيات التي تصنع المسلم صناعة مختلفة جداً عن السلوك الجاهلي (هل أنا إلا من غزية).
الإسلام يريد لنا كمالاً إنسانياً؛ اقرءوا مثلاً:
{وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ﴿١٠٧﴾ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّـهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّـهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴿١٠٨﴾ هَا أَنتُمْ هَـؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّـهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ﴿١٠٩﴾} [النساء]
ومن لم يؤدبه القرآن ويعظه ويردعه؛ فلا أمل فيه. يقول الملحدون والربوبيون: الإسلام  ... هو السبب..
وهل قرءوا هذه الآيات وأمثالها مما تقشعر له الجلود، حتى يقولوا أن الإسلام هو السبب؟
المرضى؛ إذا لم يذهبوا للمستشفيات؛ فلا تقول إن المستشفيات لا تعالج الناس، وأن الأمراض والموت يسري في الناس.. خاطبوا المرضى ليتعالجوا  أولاً.
والغريب؛ أنك في (الغمرات)؛ لا تكاد ترى عاقلاً ولا منصفاً؛ فعلاً (في غمرة ساهون)؛ كالمغمور في البحر، تصور حاله، هل يعقل أو ينطق ما يُفهم؟


مواضيع أخرى:
لمطالعة "سلسلة (أركان الإسلام من القرآن!)"على هذا اللرابط «««
لمطالعة "الشيطان ... ألفاظه ومعانيه في التراث الإسلامي- معنى الشكر."على هذا اللرابط «««
لمطالعة "سلسلة (عالمية القرآن!)"على هذا اللرابط «««
لمطالعة "معرفة الله ..لو عرف الناس الله!"على هذا اللرابط «««
لمطالعة "كن إنساناً تكن مسلماً!"على هذا اللرابط «««
لمطالعة "مقدمات قبل مناقشة الالحاد!"على هذا اللرابط «««
لمطالعة "المسلمون يضيعون غايات الإسلام!" على هذا اللرابط «««

  • المصدر : http://www.almaliky.org/subject.php?id=1540
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 10 / 30
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 20