• الموقع : حسن بن فرحان المالكي .
        • القسم الرئيسي : المقالات والكتابات .
              • القسم الفرعي : تغريدات .
                    • الموضوع : ما فائدة الوعي التاريخي؟ .

ما فائدة الوعي التاريخي؟



                      ما فائدة الوعي التاريخي؟                       



مما ذكره ابن كثير: (البداية والنهاية ط إحياء التراث (8/ 308): وبلغ ذلك عبد الملك - يعني تشنيع ابن الزبير عليه في مكة - فمنع الناس من الحج فضجوا؛  فبني القبة على الصخرة والجامع الأقصى ليشغلهم بذلك عن الحج ويستطعطف قلوبهم ، وكانوا يقفون عند الصخرة ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة، وينحرون يوم العيد ويحلقون رؤوسهم ...الخ) أهـ المراد؛ وليس المسألة أنهم (فتنوا بها) بالصخرة، من غير فعل سياسي؛ ولذلك من الطبيعي أن يحدث ما ذكره ابن كثير، من  أن (الناس التهوا بها عن الكعبة والحج، وبحيث كانوا لا يلتفتون في موسم الحج وغيره إلى غير المسير إلى بيت المقدس، وافتتن الناس بذلك افتتانا عظيماً،) اهـ فبعض العامة يريد أن يقول بأن سبب هذه الفتنة هم الناس فقط؛ دون أثر لبني أمية! إذا أردتم محاصرة التكفير والغلو فورطوا الغلاة ببني أمية، فكل مايذمونه في الآخرين فعله بنو أمية، وهم لا يفرطون فيهم أبداً، فيعتدلون بالغصب!



كثير من الناس يؤلمهم ذكر مساويء الدول؛ كبني أمية وبني العباس؛  مع أنهم متطرفون دينياً؛ والمتوقع غيرتهم على الدين!
الوعي التاريخي من أهم محرضات العقل على حسن التفكير، وهذا يدفعه لدقة الحكم على الأشياء، ولذلك كان ثلث القرآن على الأقل تاريخ عن السابقين؛ ما تعمق أحدهم في التاريخ إلا اعتدل وتخلى عن التطرف؛ وإنما يأتي التطرف من القراءة السريعة الساذجة للتاريخ، ومن مصادر متطرفة وغير موثوقة؛ سبب تطرف المتطرفين أن غير ثقات في دينهم أخبروهم بأن تاريخهم محل استلهام الأحكام الشرعية؛ وهذه أشهر كذبة يصدقها المتطرفون، لذلك يتورطون!
متى يتورطون؟
يتورطون عندما يكتشفون أن من كانوا يظنونهم حماة الإسلام وممثليه في الماضي، يقتلون الأبرياء ويشربون الخمور ويزنون وينهبون الأموال ويكذبون لخ؛ فهنا يضطرون لتكذيب هذه الذنوب والجرائم ليبقى لهم الدين نفسه، لأنهم قد صدقوا الكذبة التي تجعل التاريخ ديناً، مع أنه أفعال بشرية خالصة.
ويتبين بهذا أن إخلاص المتطرفين هو للأشخاص وليس للنصوص المقدسة، لأنهم ضعيفو العلم والبحث، لذلك لا يعرفون هذه الجرائم؛ وبعضهم يسترها عمداً. هنا لابد من القيام بعمل معاكس، في إبراز هذه الجرائم، وفضح المتسترين عليها، حتى يتعلم الشباب أن من يعدونهم قدوة قد يكون بعضهم من المجرمين. ولذلك؛ كل الذنوب التي يستحل بها بعض الشباب الدماء، هي في بعض من يعظمونهم ويرونهم من السلف الصالح الواجب اتباعهم، وقد ذكرت في السابق أمثلة.
الوعي التاريخي ليس الوعي بالسلطات فقط، بل بما يرتبط بها من فقهاء ووعاظ ومحدثين... الخ، فالمهم هو الدين وليس السياسة، لابد أن تضمن الصحة؛ ولو سألنا، ما هي أبرز الأمور التي يستبيح بها بعض الشباب وشيوخهم الدماء؟
الحكم بغير ما أنزل الله؟
سب الصحابة؟
القبوريات؟
كل هذه في سلفهم؛ ولو أخذنا استباحتهم للدماء من أجل (الحكم بغير ما أنزل الله)؛ لوجدنا أن هذه الاستباحة هي حكم بغير ما أنزل الله، فالحكم شيء والقتل شيء آخر. وهنا لا بد أن تثبت له أن بني أمية وبني العباس (ممن يعظمونهم)  كانوا لا يحكمون بما أنزل الله، فلماذا يعظمونهم ويقلدونهم في الدين؟ وسيجدون أن زعماء العقائد قد حكموا بغير ما أنزل الله عندما يقنعونهم بأن هذا يقتل وهذا يجلد وهذا ينفى من الأرض ...  كل هذا بلا نصوص شرعية. سيجدون أن (الحكم بغير ما أنزل الله) يملأ كتب العقائد والفقه التي يرجعون إليها ويقلدونها، فكيف يقلدون ( كفاراً) إذا كانوا يكفرون بها؟ أعني؛ فلماذا يرجعون ( إلى كفار) ويأخذون عنهم  (قوانين كفرية وضعية) تستبيح دماء من لا يوجب الشرع قتله؟
هذا منطقهم؛ فلابد أن يتحققوا أولاً؛ ما معنى الحكم بغير ما أنزل الله؟ وهل الكفر كلي أو نسبي؟ وهل يسلم أحد من الحكم بغير ما أنزل الله؟
هذه أسئلة توجب على الغلاة وضع إجابات.
الحكم بغير ما أنزل الله كفر بلا شك، ولكن أي كفر؟ وما الواجب في فاعله إن كفر - سواء كان كفراً كلياً أو نسبياً- ؟ وهل يجب قتل كل كافر؟ ثم أنت في بيتك؛ في مدرستك ؛ في عملك؛ وتعاملك مع الموافق والمخالف؛ ومع الناس..الخ؛ هل تحكم أنت في كل هذا بما أنزل الله؟
هل أنت متأكد؟
هنا يجب فتح باب معنى ( الكفر) الذي هو نوعان:
◄إما جحود مباشر لحكم الله.
◄أو تغطية وإهمال لحكم الله واختيار غيره.

سؤال: من يضمن سلامته من الثاني؟ وماذا لو وجدت أن بعض الصحابة أو السلف اختار غير ما أنزل الله؟ وذكره الناس به؟ لكنه أبى ورد النص؛- كاستلحاق معاوية لزياد مثلاً - ماذا تفعل؟
وكذلك نص حديث عمار؛ ونص الربا مع عبادة؛ ورد حديث الأنصار – الأثرة - ورد حديث عبد الله بن عمرو في الرجل القحطاني ..الخ؛ هل تسميه كفراً؟
وماذا لو ذكرت لك ما حكم به مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد مما يخالف النصوص؟! هل هم عندك كفار؟ أم تبحث عن أعذار الجهل والتأويل؛ وهل هذا كفر؟ وإذا اكتشفت أن هذا الشخص أو ذاك قد تم تذكيره فأصر؛ وظهر من قرائن الحال اختياره حكمه على حكم الله! وأنه لا وجود لجهل ولا تأويل؛ فهل هو كافر؟وإذا كان كافراً، فهل هو كفر كلي أم نسبي؟ وما حكم الشرع في الكافر؟ هل هو القتل أم أن القتل مخصص في الشرع بأمور جنائية محددة؟
وأنت تدرس النصوص التي تؤمن بصحتها، والتي فيها إطلاق الكفر، كالتفاخر بالأنساب والنياحة على الميت، فهل ترى المتفاخر بالنسب كافراً مثلاً؟ وهل يجب قتل المتفاخر بالنسب؟ وخاصة أنه يرتب على ذلك أحكاماً شرعية بأنه لا يجوّز الزواج منهم إلا على أساس نسبي؟ وهنا ستجد صحابة وعلماء ! هل ستكفر عمر بن الخطاب الذي رتب على النسب موضوع الكفاءة في الزواج، وتبعه على ذلك معظم العلماء والمذاهب؟ ومعظم القبائل اليوم؛ هل هم كفار؟
وهكذا يجب أن تبحث موضوع (الحكم بغير ما أنزل الله)؛ وستجده مبثوثاً في الصحابة والتابعين والعلماء والقبائل ..الخ؛ هل كل هؤلاء دماؤهم مباحة؟
هنا لابد أن تفتح موضوع الكفر والحكم بغير ما أنزل الله؛ -مع إقرارنا بأنه معصية أو كفر؛ بحسب الشخص والحالة- إلا أن الموضوع أكبر مما تتصور.
ادرس الكفر في القرآن الكريم؛ وستجد أن النبي لم يقاتل كل من كفر، وإنما قاتل الكافر المعتدي المحارب (الجنائي) ؛ هل تريد تذكيرك ببعض الآيات؟
حسناً؛ اقرأ:
({قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}) [سورة التوبه]!
هؤلاء لم يقتلهم النبي على عظم جرمهم وكفرهم (استهزءوا بالله وآياته ورسوله)، ولم يطلق منهم زواجاتهم بالردة ولا شيء! إذاً؛ ليس كل كافر يقتل.
عندما تحكم بقتل كل كافر فهذا (حكم بغير ما أنزل الله)؛ وعلى منهجك يجب قتلك، لأنك حكمت بغير ما أنزل الله؛ولأنك وجدت من بيّن لك فتكبرت الخ.
من يفخر بالأانساب مثلاً؛  ويرتب على ذلك أحكاماً وضعية؛ هل هو كافر؟ كل قبائل الجزيرة؛ تقريباً؛ فيها هذا ، فكيف تستنجد بها في نصرتك وهي كافرة؟ وما حكم الاستعانة بالكفار ومظاهرتهم؟
ستجد نفسك - أخي الشاب المتطرف - في أكثر من كفر، وتستوجب أكثر من قتلة..
وفق منهجك ومنهج شيوخك لا منهجي.
إذاً؛ فالوعي التاريخي بالصحابة والسلاطين والفقهاء هو من كوابح التطرف؛ لذلك يلجأ الغلاة إلى محاربة هذا الأمر، وأن بحوثك تطعن في السلف! توريط الغلاة بسلفهم هو أنجع وسيلة لإيقاف ومحاصرة غلوهم؛ لأن هذا سيوقعهم بين أمرين:
◄إما تكفير سلفهم.
◄أو العصبية المكشوفة.
فإن كفروا سلفهم؛ فقدوا الشباب والمتعاطفين؛ وإن تعصبوا وتلونوا وخدعوا ومكروا ... فهنا يأتي دور الباحثين في كشفهم أمام الشباب لينفضوا عنهم. وهذا لا يعني مجاملة السلطات في المظالم؛ فهذا له محله؛ ولكن الشر الأكبر يكمن في هذا الغلو والتطرف الذي ليس مع حقوق ولا عدالة ولا معرفة.. بل بعض الباحثين والفكرين يرون أن الغلو والتطرف هو صنيعة السلطات الظالمة والاستبدادية لإلهاء الشعوب بالتطرف عن نقد المظالم والفساد، ولكن وجهة النظر هذه؛ حتى لوصحت نسبياً، فلا أظنها عامة، لأن التطرف قديم؛ قبل الحكومات الاستبدادية؛ وله عقائده وتراثه ورموزه وشياطينه القديمة. ثم لو افترضنا أن التطرف صناعة حكومية خالصة؛ فنقده بعلم ومعرفة سيزيد من الاعتدال ويحرج الحكومات ويكشفها عندما تكون الحجج في أيدي الجميع.
صحيح أننا نلحظ بعض ما يريب أحياناً، من تصدر الغلاة للرد على شبهات الغلاة، كناقش الشوكة بالشوكة ( كما قال الإمام علي) ولكن هل هذا عن تعمد؟
لا نريد أن نستعجل عجلة الغلاة في الاتهامات السهلة، نريد أن نبني مصداقية عند الجميع، من المتطرف إلى الحاكم، فالصدق منجاة، وبراءة ذات. ما يحرج الحكومات هو الحقوق والحريات، ولكن لا يمكن أن تضغط في هذا السبيل والشعوب متطرفة، لابد من محاربة التطرف وتقديم رؤية حقوقية معتدلة. الحكومات فيها من الظلم والأثرة والفساد واللعب بالرأي العام ما يعرفه كل لبيب؛ ولا يجب السكوت عنه، ولكن لابد أن تفصل نفسك عن التطرف قبل ذلك.
الخلاصة:
أن استباحة الدماء بحجة (الحكم بغير ما أنزل الله) هو حكم بغير ما أنزل الله، راجعوا القرآن واعرفوا الخصال الموجبة للقتل وحكموها.
كذلك مما يستبيح به الغلاة القتل مسألة (سب الصحابة)، ومثلما قلنا أن الحكومات فيها مظالم وأثرة؛ ولكن لا يجوز استهداف رجال الأمن؛ فكذلك الشيعة فيهم ظلمة ومخرفون وغلاة .. ولكن لا يجوز قتلهم، لا سيما وأن ما في بعضهم من أخطاء وغلو موجود عند بعض السنة أيضاً. ومثلما قلنا أن الغلاة يستبيحون الدماء بسبب ما يظنونه (حكم بغير ما أنزل الله)؛ وأن فعلهم هذا حكم بغير ما أنزل الله، فكذلك موقفهم مع الشيعة.
وهنا نسأل:
◄بأي نص أوجبتم قتل من يسب بعض الصحابة؟
◄أي نص قرآني أو حديثي يقول بهذا؟
لن تجدوا إلا (أحكاماً وضعية) لبعض السلف يبيحون ذلك. وهنا أنتم ( تحكمون أحكاماً وضعية) ليست في الكتاب ولا في السنة؛ وهذا لا يعني إقرار من يسب، ولكن ما هي عقوبة هذا الساب؛ شرعاً وليس مذهباً؟
ثم أنتم تجهلون أن سلفكم؛ من بني أمية وبعض أهل الحديث؛ كان يسب بعض الصحابة الكبار؛ وأنتم تترضون عنهم وتحبونهم؛ فهذه قسمة ضيزى. ثم إن الخوارج - وهم أبلغ من السبابة - يكفرون علياً وعثمان؛ ولم ير الإمام علي ولا الصحابة السابقون قتلهم إلا إذا باشروا في الاعتداء المسلح.
هذا حبيبكم زهران علوش يقول (سنعيد مجد بني أمية)!  وبنو أمية أول من حكموا بغير ما أنزل الله صراحية، وقتلوا وسبوا أهل بدر على المنابر !
إذاً؛ فالوعي التاريخي بكوارث السلف؛ من تحكيمهم آراءهم في دين الله وقتلهم ألأخيار ولعنهم الصحابة وأهل البيت؛ هو من سيحرج الغلاة ويكشفهم. وعندما نقول (كوارث السلف) لا نعني كل السلف قطعاً؛ وإنما نقصد الظلمة منهم؛ الذين استهدفوا المعتدلين والأخيار؛ والغلاة مع الظلمة؛ قلباً وقالباً؛ الغلاة لهم مغالطات كثيرة، فتنبهوا لها جيداً؛ فأنت إذا ذكرت مظالم بني أمية؛ الذين قتلوا الصحابة واستابحوا أعراضهم؛ أتوك وقالوا أنت ضد الصحابة؛ بمعنى أنه يجب عليك السكوت عما جرى لأهل بدر والرضوان في صفين والحرة من قتل وتمثيل واستباحة من قبل بني أمية؛ هذه هي الخلاصة. وهو تزييف للوعي؛ فالوعي التاريخي مهم جداً، ولم أجد مثله في مواجهة الغلو والتطرف؛ نعم القرآن أكثر فاعلية عند من يعبد الله؛ لكن من يعبد التاريخ فاصدمه به!
إذاً؛ فاستحلال دماء من يسبون بعض الصحابة ليس مبنياً على حكم شرعي؛ وإنما على أحكام وضعية مزاجية، وليس كل ما نكرهه يجوز لنا أن نشرع له حكماً؛ فنحن مثلاً نقر بأن الكبر من أكبر الذنوب، وهو معصية إبليس التي تفرع منها كل كفر وشرك ونفاق... ولكن هل هناك حكم شرعي في عقوبة المتكبر؟
كلا.
ليس الدين بالمزاج والهوى؛ إنما الدين بالتسليم فيما تحب وتكره، وهذا معنى الإيمان؛ فإن لم تجد عقوبة لسب الصحابي أو الكبر فلا تشرع أنت عقوبتهما؛ تشريعك للعقوبات سيجعل منك طاغوتاً من الطواغيت؛ وحسن النية لا تكفي؛ فطريق جهنم مليء بالنيات الحسنة؛ لا تزايد على الله، فهذا أبلغ الكفر.
والخلاصة؛ أن معظم خصال الكفر والشرك والنفاق ليس فيها عقوبة شرعية في الدنيا، معظمها مؤجلة العقوبة يوم يفصل الله بين العباد.
افهم هذا.
العقوبات الشرعية هي لست جرائم جنائية  فقط في القرآن؛ وهي :
◄قتل النفس.
◄الزنا.
◄السرقة.
◄القذف.
◄المحاربة المادية.
◄البغي.
ومن يبت في هذا هو القضاء. واختراع عقوبات للكبر والنفاق وسب الصحابي والممارسات عند القبور، هي من جملة الحكم بغير ما أنزل الله، ويحمل اتهاماً للإسلام بالنقص؛ وهذا كفر؛ وكتابي (حرية الاعتقاد في الكتاب والسنة) موجود في الموقع؛ وفيه مناقشة ورد بالنص شبهات أول الأحكام الوضعية التي أضيفت للشريعة في وقت مبكر.

لن نكون أعلم من الله بدينه (قل أتعلمون الله بدينكم) ؛ ولن نكون أحرص منه ولا من رسوله على الإسلام؛ الله أراد هكذا؛ ديناً دون إكراه، ما دخلك؟ مهمتك أن تبحث عن حكمة الله في تشريعه العقوبات على ذنوب دون ذنوب؛ وستعرف أن شرع العقوبات على الجنايات دون الأفكار؛ واعرف الحكمة من ذلك أيضاً؛ وستعرف أن الحكمة من ذلك أن عقوبة الجنايات فيها حفظ للمجتمع في الدنيا؛ وأن العقائد لها حسابها في الآخرة.. المسألة سهلة جداً! ولو تواضعت لتعلمت.
وبقي القبوريات أيضاً؛ أعني استهداف المتطرفين للقبور والمرتادين لها توسلاً أو زيارة أو ربما لبعض البدع والخرافات .. ويسمون ذلك شركاً وكفراً؛ أيضاً هذا يحتاج للوعي التاريخي على شقين:
الأول: معرفة أساس ها النفور من القبور.
الثاني: معرفة أن بعض السلف - والحنابلة خاصة - كانوا هكذا.
أما أساس النفور من القبور وأهلها، فأصله أموي؛ فهذا مروان بن الحكم ينكر على أبي أيوب الأنصاري وضع خده على قبر النبي، وكذلك أنكر على أسامة. فهل الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم أعلم بدين الله وشرعه من أبي أيوب الأنصاري وأسامة بن زيد؟  أم أن هذا أصله نابع من النفاق الأموي؟
والآن سنوثق بداية هذا النفور والجفاف تجاه النبي نفسه، وكيف أن الغلاة يدعون السلف، وسلفهم مروان، وقد تركوا أبا أيوب الأنصاري وأسامة وعائشة؛ أما قصة مروان مع أسامة بن زيد - بعد صلاته عند قبر النبي -  فرواها الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه؛ والطبراني والضياء وغيرهم، بسند صحيح ولفظه: عن عبيد الله بن عبد الله؛ رأيت أسامة بن زيد يصلي عند قبر رسول الله؛ فخرج مروان فقال؛ أتصلي عند قبره؟ فقال أسامة : إني أحبه - يعني رسول الله - فقال له (مروان) قولاً قبيحاً ثم أدبر؛ فانصرف أسامة وقال: لقد آذيتني، وإني سمعت رسول اله يقول: إن الله يبغض الفاحش المتفحش، وإنك فاحش متفحش.
فهذا مروان جمع الجفاء عن النبي مع الفحش؛ وهذا أسامة الصحابي الجليل يصلي عند القبر النبوي لمحبته للنبي مع حسن كلام؛ من منهما يشبه الغلاة؟
هنا أهمية الوعي التاريخي؛ لأنه يكشف لك أن سلفك  في الجفاء والفحش مثل مروان وليس مثل أسامة؛ وقد كتم أهل الحديث ما قاله مروان من الفحش! وربما لو كشفوه لأشبه كلمات الغلاة اليوم الذين يتعجرفون بالمادية إذا تعلق الأمر بالنبي وآل البيت، بينما خرافيون في بني أمية وموضوع الرؤية!
أتوقع أن فحش مروان هو تكفيره سامة بن زيد، وأنه يصلي لغير الله؛ أو أنه مشرك أو كافر .. كما يفعل الغلاة اليوم.
وبقيت قصة مروان مع أبي أيوب؛ ولكن قبل قصة أبي أيوب الأنصاري وهي أبلغ؛ ألا تلحظون أن الدعاة والخطباء اليوم يكررون هذا الحديث دون ذكر المناسبة؟! لماذا يا ترى؟ هذه طريقتهم في إخفاء الجفاف الأموي والأخطاء الأموية؛ لأنهم حريصون على اتباع بني أمية كسلف ويأخذون أحاديث معارضيهم كسنة؛ لبس للحق بالباطل.
طبعاً؛ في بعض الطرق؛ أن أسامة كان عند عائشة؛ وهي أقرته على الصلاة إلى القبر النبوي؛ أو عند القبر النبي - حسب اختلاف الالفاظ - أليسا من السلف؟
وهذه القصة الثانية لمروان بن الحكم مع الصحابي الكبير الجليل أبي أيوب الأنصاري، وكان أبو أيوب يضع وجهه على قبر رسول الله، فماذا فعل مروان؟
مسند أحمد ط الرسالة (38/ 558) ( أَقْبَلَ مروَانُ يَوْمًا فَوجَد رَجُلًا وَاضِعًا وَجْهَهُ عَلَى الْقَبْرِ، فَقَالَ: أَتَدرِي ما تَصْنَعُ؟  فَأَقْبَلَ علَيْهِ فَإِذَا هُو أَبُو أَيُّوبَ؛  فَقَالَ: نعمْ، جِئْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ آتِ الْحَجَرَ؟  سَمِعْتُ رسولَ اللهِ  يقُولُ: " لَا تبْكُوا عَلَى الدِّينِ إِذَا ولِيَهُ أَهلُهُ، وَلَكِنْ ابْكوا عليْهِ إِذَا وَلِيَهُ غَيْرُ أَهْلِهِ ) .
والحديث رواه أحمد والحاكم؛ وصححه ووافقه الذهبي، ولا ريب أن هذا الفعل من أبي أيوب - وقبل ذلك من أسامة - هو كفر عند الغلاة وبني أمية؛ لا الصحابة؛ وهذا معنى قولنا أن الغلاة سلفهم بنو أمية؛ لا المهاجرين ولا الأنصار؛ مع أن النص الشرعي هو الواجب الاتباع؛ لا الصحابة ولا التابعون ولا السلف.
الخلاصة أن هذا الشق الأول؛ وهو  أن هذا الجفاف تجاه الأموات الصالحين؛ كانت بدايته  الجفاف  الأموي تجاه النبي نفسه؛ لماذا؟
لأن صالحي الصحابة كانوا في جانب؛ ووالي المدينة الأموي مروان بن الحكم في جانب؛ وحاله معروفة وحال أبيه الحكم؛ فأين هم السلف هنا؟
صحيح أن الممارسات عند القبور توسعت؛ وأضاف إليها بعض الصوفية وبعض الشيعة ممارسات وخرافات؛ لكن أيضاً في الجانب الآخر يغلو الغلاة ويكفرون بها.
أنا شخصياً ما ازال فيّ هذا الجفاف؛ ولا أستطيع أن أفعل ما فعله أبو أيوب الأنصاري؛ ولا أسامة بن زيد، لكن؛  لماذا لا يكون هذا من أثر الغلاة عليّ؟
إذاً لا تظن أن ما تربيت عليه وأنست به في محيطك هو الدين الخالص؛ أنت لا تعلم من أي أودية العقائد كان سيلك؛ لابد من الوعي التاريخي والتواضع؛ قد لا أتقبل نفسياً ما يفعله بعض الشيعة والصوفية؛ حتى لو اقتصروا على أفعال الصحابة الكبارر كأبي أيوب الأنصاري وأسامة وبلال؛ ولكن هل هذا شرع؟
لم نستعرض بقية أفعال الصحابة للاختصار؛ فبلال كان يمرغ وجهه بتراب القبر؛ واتخذت فاطمة الزهراء بيت الأحزان؛ والجفاف الأموي يضاد هذا كله. فكيف إذا أضفنا ما فعله بنو أمية بقبور شهداء أحد؛ من نبشهم وضرب قدم حمزة بالمسحاة؛ وقول جبار بن عبد الله : (لن ينكر منكر بعد اليوم)؟
فكيف لو أضفنا الجفاف تجاه المسجد النبوي  والمنبر النبوي والكعبة ومقام إبراهيم، لدرجة أن الكعبة تهدم بالمنجنيق؛ هل كل هذه  العظائم صدفة؟
والخلاصة هنا: هل يرى الغلاة استباحة دماء أسامة بن زيد وأبي أيوب الأنصاري وبلال بن رباح وابن عمر وعائشة... الخ؛ وهل هم على منهجهم مشركون؟ وأخبار الصحابة والتابعين كثيرة في هذا الجانب؛ ولكن نقفز إلى الشق الثاني : وهو تعظيم بعض سلفهم للقبور والتبرك بها؛ فهل هم عندهم كفار؟ وهل يجب قتل أحمد بن حنبل وإبراهيم الحربي وأغلب الحنابلة المتقدمين؟ فلهم فتاوى في التمسح بالقبر والمنبر والرمانة وقبر فلان وثياب فلان! بل أبلغ من ذلك؛ هل يستبيحون دم يعقوب لأنه سجد ليوسف عليهما السلام؛ وهل يستبيحون دماء الملائكة لسجودهم لآدم؟ والسجود أبلغ من التبرك!
اعقلوا؛ اعرفوا الحكمة من سجود الملائكة لآدم؛ وسجود يعقوب ليوسف؛ أفضل من أن تسبيحوا دماءهم؛ ودين الله واحد في الإيمانيات؛ تأنوا وابحثوا عن العلل. المفترض في طالب العلم أن يتواضع ويبحث عن الحكمة ويسأل نفسه:
هل يأمر الله بالشرك مع بدء الخلق ويجعله أعظم ذنب ينهى عنه الأنبياء؟
عندك خلل؛ هذه الأمور لا تبحث بالخصومات والجدل؛ لا تبحث موضوعاً وفي عقلك رد على شيعي أو صوفي؛ ابحث متجرداً وستجد الإجابات؛ فالله يعين المنصف الصادق. ابحث عن تصوراتك أنت؛ هل هي صحيحة أو سقيمة؟ وهل تتبع سلفاً ظالماً جافاً جاهلا أم تتبع سلفاً صالحاً رقيقاً غير مشرك؟ إسأل نفسك من أين أتيت؟ أنت شخصياً من أين أتيت؟ من أي الأدوية استقيت؟ ألا تذكر قول أبي أيوب لمروان :  (ابكوا على الدين إذا وليه غير أهله)!؟
قال:  ( الدين)!!
هل نحن أتباع هؤلاء الذين لم يكونوا من أهل الدين وتغلب عليهم المادية ؟ وربما يخفون إنكار النبوات والغيب؟ هل يعقل أننا أخذنا منهم الدين؟ إذا وجدت من يبالغ في الدين نفسه فهل هذه حجة في نفي الدين كله؟ لماذا لا يكون بعض الممارسات عند القبور صحيحة شرعية وأنتم تسونها شركاً؟ حتى زيارة القبور أدمنّا الجفاف تجاهها؛ وهي تذكر بالآخرة وترقق القلب وتبعث على التفكر .. ثم هذا الجفاف ماذا جنينا منه؟
الفحش والقتل فقط؛ اطمئنوا؛ ليس على وجه الأرض من يعبد قبراً، إنما هي ممارسات تكبر وتصغر، وعلاج الجفاف أو الغلو كلاهما، هو البحث والنصيحة  لا القتل والفحش.
كل ما تسمعون من كلمات مثل: (عبدة القبور/ القبوريون) فهو من الفحش والظلم؛ ليس على وجه الأرض من يعبد قبراً؛ ولا من يتسمى بذلك؛ أتعلمون لماذا؟
لأنكم تظنون أن ذلك المتبرك يظن أن ذلك الشخص - نبياً أو ولياً-  إله أو فيه جزء من الألوهية، وهذا غير صحيح، هو من الباطل الذي تقولونه فقط؛ العبادة يشترط فيها النية بأن هذا الذي أتبرك بتربة قبره أو أتوسل به، هو إله أو معه بعض الألوهية. راقبوا سجود الملائكة؛ ماذا كان شعورهم؟
الفرق أنه لو كان الغلاة من الملائكة لسجدوا سجود عبادة؛ وكان شعورهم أن آدم آله؛ أما لو كان العقلاء من الساجدين؛ فلن يخطر هذا على بالهم أبداً؛ الغلاة لا يعرفون إلا وجهاً واحداً وشعوراً واحداً لجفافهم؛ واتباعهم لمن تأثر بالجفاف الأموي؛ أما المعتدلون العقلاء فيعرفون للأمر وجوهاً عدة؛ الوعي التاريخي ليس وعياً بالسلطة السياسية فقط؛ وإنما بالسلطات الفكرية أيضاً، وهو أهم؛ اعرف كيف سارت الثقافة! أعرف أن التجرد صعب؛ لكن حاول؛ اتركوا الإجابات الاعتباطية؛ فهي من الكبر؛ مثل قول بعضهم: سجود الملائكة لآدم كان لله! هم سجدوا لآدم؛ ولكن ما نوع السجود؟ وما شعور الساجدين؟ طيب وسجود يعقوب ليوسف ماذا تجعلونه؟ تفضلوا بإجابة اعتباطية مقترحة...ولن تتعلموا منها العلم؛ إنما العصبية؛  الاعتباط هو فساد العلم والمعرفة.
طيب، الأظهر من هذا؛ أن المتبركين بالقبور هم يطلبون من الله؛ فلماذا تكفرونهم وتستبيحون دماءهم؟ بل هم يصرحون بهذا، ولم يصلوا لمرحلة السجود؛ عندما تستعين بأخيك أو صاحبك في أمر فهل أنت مشرك؟ على منهجك نعم؛ لأن الاستعانة عبادة؛ وهي بالله وحده!
ما هذا؟
وسع أفقك... فللأمر وجوه؛ طيب؛ إذا أنت مصرٌ فماذا تفعل بالصحابة الذين ذكرتهم لك؟ وبأحمد والحنابلة؟ هل ستكفرهم؟ أرنا شجاعتك وصفاء عقيدتك! أو تواضع وابحث.
أطلت عليكم؛ ولم أوثق آراء أحمد وإبراهيم الحربي وغيرهم في مسألة القبور؛ خشية التطويل؛ والخلاصة أنه لا يجوز التكفير ولا القتل على هذه الأعمال؛ ونتمنى من جماعات المناصحة أن توسع البحث فوق المذهب ليكون أكثر إقناعاً؛ حتى لا نتفاجأ  كل يوم بمفجر بعد تظاهره بالتوبة، لضعف حجة مناصحه.

  • المصدر : http://www.almaliky.org/subject.php?id=1207
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 08 / 11
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29