استراحة = ذكريات الدراسة! - الجزء الأوّل
استراحة = ذكريات الدراسة!
الجزء الأوّل
لمطالعة "الأستاذ علي العيسى؛ (السعودي الإنسان) الذي حرمنا منه!" على هذا اللرابط «««
وهي فرصة لأرسل نداءً لكل تعليم قطاع جازان؛ أن يكرموا مدير التعليم يومئذ؛ الأستاذ محمد سالم العطاس؛ فهذا الرجل مهما كتبنا عنه لا نوفيه حقه؛ وخاصة القطاع الجبلي.
لقد طاف الجبال على حمار؛ وافتتح مدرسة مدرسة؛ وجعل لمدرسي الجبال نسبة فوق ٥٠٪؛ ولطلابها راتب ١٥٠ ريال حتى يعوض الآباء؛ فحق الاستاذ محمد سالم العطاس على أهل الجبال؛ كبني مالك وفيفاء قبل أهل تهامة؛ ولولاه لما درس إلا القليل؛ ولما صعد إلينا مدرس إلا بمعجزة.
سعدت هذه الأيام بلقاء أربعة من أساتذتي الذين درسوني في المرحلة الابتدائية؛ وقابلت بعضهم بعد أربعين سنة؛ فكانت عبرة.
الأساتذة هم: أحمد عمودي؛ محمد إسحاق؛ طه البار= وثلاثتهم من أبو عريش؛ وراشد محمد عمر أبو صيدة من صبيا؛ وتذكرت معهم هذه الأربعين سنة التي مضت.
سأبدأ بأستاذي أحمد عمودي؛ وكان مشرف فصلنا ( أ ) في الصف الثاني والثالث؛ أعوام ١٣٩٦-١٣٩٨.
الصورة في بيت والده القديم

كان الأستاذ أحمد عمودي من أنجح الأساتذة؛ قريب الفهم؛ سهل المأخذ؛ جميل الخط؛ كريم مسامح؛ اتحادي صميم!
صورة ٢

حكى لي استاذنا أحمد عمودي؛ أنه تخرج من معهد المعلمين بجيزان ١٣٩٥- ١٣٩٦؛ وكان أول تدريسه عندنا في مدرسة القعقاع الابتدائية؛ بوادي الجنّية؛ حدثني كيف أنهم تم تعيينهم في القهبة - بني مالك - ولكن مدير التعليم "محمد سالم العطاس" - ألبسه الله العافية - أقنعهم بمدرسة القعقاع؛ فوافقوا؛ وكان زميلاه؛ الاستاذان طه البار (المدير) ومحمد إسحاق (مدرس الفصل ب) كلهم من أبو عريش؛ وتخرجوا في العام نفسه؛ وكان أول تعيين لهم.
وصلوا إلى مدرسة القعقاع؛ ثم عادوا إلى العطاس؛ وطالبوا بأثاث (ماصات وكراسي للطلاب والإدارة)؛ وكنا قبلهم في الصف الأول نجلس فوق فرش الحنابل.
كان مدير التعليم محمد سالم العطاس – كعادته - كما يريدون؛ وأمرهم بتحميل ما يشاءون في شاحنة مرسيدس كبيرة؛ وكتب لأمير بني مالك ابن قزيز فيهم؛ وصلوا برفقة الشاحنة المرسيدس ليلاً إلى الداير - مركز الإمارة - وناموا فوقها إلى الصباح؛ ثم أمر لهم ابن قزيز بشاصات توصل الأثاث للمدرسة؛ اختار أحمد عمودي أن يتقدم مشياً على الأقدام من الداير إلى مدرسة القعقاع؛ لتأخر استدعاء الشاصات؛ وكان برفقته العم كشمان وآخر نسيت اسمه؛ مشوا من الداير للموطف وصعدوا ذراع الحشرة - وهي عقبة صعبة تفصل وادي الجنية عن الداير - وكان هذا أول احتكاك لاستاذنا مع الأهالي؛ وتعجب لصبرهم!
لما وصلوا تفقد استاذنا نظارته التي لم يكن يقرأ إلا بها؛ وتذكروا أنهم ارتاحوا تحت شجرة في ذراع الحشرة؛ فعاد لها كشمان ليلاً وجلبها له!
تفاجأنا كطلاب عندما داومنا في الصف الثاني ابتدائي - أواخر عام ١٣٩٦- أنه أصبح عندنا ماصات وكراسي؛ فلا تسل عن فرحتنا؛ والفضل لهم وللعطاس.
مدرس فصلنا( أ ) هو أحمد عمودي؛ ابن السبعة والعشرين عاماً؛ بنظارة سوداء لا تفارقه؛ كاشف الرأس؛ لا غترة ولا عقال.
كان الأستاذ عمودي قريباً من الطلاب؛ يوصل المعلومة بسهولة؛ شدنا فيه حسن الخط؛ والقرب من الطالب واحترامه؛ وكأنه زميل لا أستاذ؛ ومن حسن حظه أننا كفصل ( أ ) كنا أشطر من فصل ( ب )؛ علمنا ذلك فيما بعد؛ عندما أصبحنا فصلاً واحداً؛ وكذلك في المتوسطة؛ فكان الأوائل منا لا منهم.
كان يشجعنا على الخط والقراءة؛ وأخبرنا بقصة الزير سالم؛ وجلب لنا كتاب عن الزير؛ فكنا نقرأه بنهم؛ ثم عنترة؛ ثم سيف بن ذي يزن؛ لكن الزير ثبت.
أيضاً؛ كان اتحادياً وتبعه معظم فصلنا في تشجيع الاتحاد في سنوات عجاف؛ أواخر التسعينات الهجرية؛ وكنا نتابع الدوري الممتاز بشغف؛ شأن الشباب؛ كانت صدمتنا قوية في هزيمة الاتحاد أمام الأهلي ٤-صفر؛ نهائي كأس الملك خالد ١٣٩٩؛ لكننا أقنعنا أنفسنا أنه سحر! ولم نكتشف إلا بعد أعوام!
دخل الأستاذ أحمد عمودي فصل ( ب ) في بعض الحصص؛ لغياب مدرسهم محمد إسحاق؛ فوجدهم أقل من مستوانا بكثير؛ فأراد استنهاضهم بطريقة ذكية؛ فماذا فعل؟
كتب الأستاذ لفصلنا قصيدة نثرية في توبيخهم؛ وقدمني أماماً لهم؛ وذهبنا إلى فصل ( ب) وقرأتها؛ وطلاب فصلي في الخلف يرددونها بعدي؛ تقول القصيدة:
نحن الطلاب المجتهدون
نحيي الطلاب الكسلانة
جينا نحييهم
ونؤدبهم
ونعلمهم
هذا ما أحفظه؛ فكانت عقوبة معنوية؛ بلا عصا ولا ألم مادي.
خرج فصل ( ب ) للفسحة؛ والكل يسأل عني ليضربني؛ لكن زميلنا سالم أحمد جبران كان مهلهل المدرسة وبطلها بلا منازع؛ فتوعد كل من يمسني بسوء فكفوا؛ لكن القصيدة أثارت أستاذهم محمد إسحاق بعد عودته؛ وتم الصلح بأن يجعلوا بيننا تحدياً علمياً (مسابقة)؛ واختاروا أشطر ثلاثة من كل فصل؛ كنت أنا وسالم أحمد وجابر محمد سلمان؛ ومنهم عبد الله فرح؛ ولا أذكر زميليه؛ فانتهت بالتعادل؛ أجبنا على جميع الأسئلة؛ فكسبنا الجوائز معاً!
كان الأستاذ أحمد عمودي قد أثارهم بهذه الخطوة الذكية؛ فكانوا يشتركون معنا خارج الفصل في الخط والمعلومات؛ وارتفع مستواهم!
الأستاذ أحمد عمودي وزملاؤه يحكون عن كرم الأهالي في وادي الجنية؛ فخالطوا الناس وأحبوهم؛ حتى لبسوا لبسهم المحلي؛ مئزر وجكت وحزام وخنجر الخ؛ وهذه أسماء اللبس المحلي أيامهم؛ وزرة = مئزر؛ كوت= جكت؛ سِبتة= حزام؛ منقلة= خنجر؛ غترة= عمامة؛ صميل= عصا غليظة.
أحبوا الناس وأحبهم الناس.
حضر المفتش المدرسي ليلاً - وكانوا يدرسون محو الأمية (ليلي) - فدخل الموجه الفصل؛ وكان احمد عمودي لابساً اللبس المحلي ككبار السن طلبة الليلي! فسأل المفتش: أين الأستاذ؟
فقال عمودي: أنا.
فقال: ولماذا هذا اللبس؟؟
فقال: هذا لبسي من يوم خلقني ربي!
وأصبحت طرفة سيارة في المجتمع هناك.
كان للمعلم صلاحيات واسعة؛ وله احترام كبير؛ وهو أيضاً في مستوى المسؤولية؛ يعاقب بقدر إذا لزم الأمر؛ وكان أولياء الأمور يوصونهم بضربنا لنتعلم؛ كان كل الناس في ذلك الزمن في مستوى المسؤولية؛ من مدير التعليم والمدرس؛ إلى ولي الأمر والأمير والمجتمع؛ بل كان خريج الصف السادس له شأن عظيم؛ وهي فرصة لأرسل نداءً لكل تعليم قطاع جازان؛ أن يكرموا مدير التعليم يومئذ؛ الأستاذ محمد سالم العطاس؛ فهذا الرجل مهما كتبنا عنه لا نوفيه حقه؛ وخاصة القطاع الجبلي.
لقد طاف الجبال على حمار؛ وافتتح مدرسة مدرسة؛ وجعل لمدرسي الجبال نسبة فوق ٥٠٪؛ ولطلابها راتب ١٥٠ ريال حتى يعوض الآباء؛ فحق الاستاذ محمد سالم العطاس على أهل الجبال؛ كبني مالك وفيفاء قبل أهل تهامة؛ ولولاه لما درس إلا القليل؛ ولما صعد إلينا مدرس إلا بمعجزة.
الأستاذ محمد سالم العطاس مازال حياً - ألبسه الله العافية - ولم أجد معلماً من أساتذتنا إلا ذكره فضله وإخلاصه وتضحياته وتسهيله كل صعب.
نعود؛ فقد قابلت اليوم مدرس فصل ( ب ) الاستاذ محمد إسحاق؛ وكان معلماً خلوقاً حيياً؛ وهذه صورتي معه في بيته بأبي عريش:

تخيلوا؛ لم أره من أربعين سنة؟! رأيته اليوم فقط؛ ومع هذا التقصير مني يصفونني بالوفاء؛ فإذا كنت الأوفى فمن هو المقصر؟
استاذك في المرحلة الابتدائية ليس كأي استاذ؛ إنه والدك الثاني؛ ربما تعلمتٓ منه أكثر كما تعلمت من والديك؛ لذلك لمدرس الابتدائي مكانة خاصة.
الأستاذ محمد إسحاق عرفته اجتماعياً أكثر منه معلماً؛ لم يكن يدرسنا؛ لكن كان الجميع يحترمه ويجله لأخلاقه وحيائه؛ وكان يحنو علينا كأبناء.
حكى لي الاستاذ محمد إسحاق ما حكاه أحمد عمودي؛ من تجربتهم ومن تفاجئهم بكرم الناس وطيبتهم وبساطتهم؛ وشطارة طلاب مدرسة القعقاع؛ فلن أكرر.
في العصر ذهبنا لعزاء العم غالب الأمير في وفاة أخيه؛ فقابلت في العزاء الاستاذ الثالث؛ استاذنا طه البار/ مدير المدرسة يومها؛ وبيننا وعد.
كان الأستاذ طه البار يدخل الفصول ويجلس معنا ويختبر قدراتنا؛ لم يكن معزولاً على مكتب الإدارة؛ وكان مهيباً بإجلال عند الطلاب وأولياء الأمور؛ كان طه البار أيضاً مثقفاً رائع الرسم؛ أذكر أنه زار والدي ورآني ارسم المسجد الحرام؛ فأخذ الكراسة والألوان وقال تعال وانظر؛ فماذا كان؟
لقد رسم المساجد الثلاثة (المسجد الحرام/ النبوي/ الأقصى)؛ فكانت فوق التصور؛ وفي اليوم الثاني انبهر الزملاء وأنكروا أنه رسمي؛ لكني حلفت لهم؛ وهكذا الطفل؛ يعرف أن الحلف حرام؛ لكن حب التميز والابداع قد يغلب أحياناً؛ لكنهم ايضاً لم يصدقوا حلفي لهم؛ وأتوا بأيمان مضادة.
من المعلومات التي حفظتها من الصف الثاني الابتدائي عن الاستاذ طه البار؛ أن الذي يلد من الحيوان تكون له آذان؛ والذي يبيض لا يكون بأذن ظاهرة؛ طبعاً الاستاذ طه اعتذر عن التقاط صورة معه؛ فهو يرى حرمة التصوير؛ والأكثر أسفاً أنه أخبرني أنه أحرق ٤ آلاف صورة؛ ولكن نحترم رأيه؛ وقد قلت له: يا أستاذنا؛ الذين حرموا التصوير أصبحوا نجوماً في المجلات والقنوات؛ فقال مبتسماً وبأدب جم؛ أعلم؛ ولكن عندي تحفظي؛ ونحن نحترم ذلك.
في الحلقة القادمة نتحدث عن أساتذة آخرين؛ وأولهم استاذنا من الصف الرابع ابتدائي؛ راشد محمد عمر أبو صيدة؛ صورته:

لمطالعة "استراحة = ذكريات الدراسة! - الجزء الثاني" على هذا اللرابط «««