نعم؛ يجوز الترحم على تارك الصلاة!
نعم؛ يجوز الترحم على تارك الصلاة!
- تعقيباً على فتوى بعض الفقهاء-
لعل بعض الناس من أكثر الناس صلاة؛ ولكن بلا تحقيق لغايتها ولا وظيفتها؛ وقد يأتي الواحد منهم يوم القيامة بصلاة وصوم وحج؛ ولكنه يأتي وقد شتم هذا وأكل مال هذا وقذف هذا؛ فترجح ميزان سيئاته..
سمعت فتوى لفقيه من الفقهاء المعروفين في إحدى القنوات، تتصل به امرأة وتسأله عن حكم الصوم والصدقة والاستغفار لزوجها الميت، فسمعت فتوى شديدة جداً،
سأنقل استفتاءها وفتواه ثم أجيب:
المرأة: يا شيخ؛ أنا بناتي يصومون لوالدهم المتوفي، لأنه كان مفرطاً في الصيام، فهل يجوز الصيام عنه والصدقة؟
الشيخ: هل كان يصلي؟
المرأة: والله مفرط.
الشيخ: يعني يضيع بعض الصلوات؟
المرأة: أي يترك.
الشيخ: ومات على ذلك ولم يتب؟
المرأة : يصلي أحياناً في البيت، أحياناً الجمعة، أحياناً أحياناً.
الشيخ: قصدي؛ هل يترك الصلاة نهائياً أم أنه لا يصلي مع الجماعة؟
المرأة: لا، الجماعة لا يصلي معها مرة.
الشيخ: لكن ما يترك الصلاة؟
المرأة : إلا والله يتركها يا شيخ.
الشيخ: متعمداً؟
المرأة: كسلاً يعني كسل.
الشيخ: أي هذا لا يصام عنه ولا تنفعه الأعمال إذا مات على ذلك، ولا الصدقة ولا شيء، ولا يستغفر له.
المرأة - بصوت حزين مرعوب - : لا حول ولا قوة إلا بالله.
التعليق على كلام الشيخ:
لا يهمني هنا مسألة القضاء ، أي قضاء الصلاة والصوم عن الميت، فلها مبحث آخر، ولكن هالني قول الشيخ أنه ((لا يستغفر له وأنه لا ينفعه ذلك))!!!. فهذا قول شديد جداً، وغير معتمد على دليل مقنع، وله نظائر في كتب الفقه التي تعتمد علة أحاديث مروية مشكوك في صحتها وتترك القرآن الذي يستفاد من تدبر آياته أنه يجوز؛ بل يشرع؛ الاستغفار لتارك الصلاة. إذ كيف لا يجوز والله قد وعد بغفران الذنوب كلها إلا الشرك ({نَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116]
وترك الصلاة هو دون الرشك اتفاقاً؛ اي أن ترك الصلاة من الذنوب التي تقع عليها المغفرة بإذن الله، لا سيما إذا حقق تاركها حسنات أخرى مثلها أو أكبر منها، فالخلاصة في الميزان الإلهي هي: (فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية)؛ فلعل للرجل أعمال صالحة من كف الأذى عن الناس وإكرام اليتيم وبر الوالدين وأشياء كثيرة جداً يمكن أن تزيد في الأجر عن الصلاة وتمحو إثم تركها.
وفي الجانب الآخر؛ لعل بعض الناس من أكثر الناس صلاة؛ ولكن بلا تحقيق لغايتها ولا وظيفتها؛ وقد يأتي الواحد منهم يوم القيامة بصلاة وصوم وحج؛ ولكنه يأتي وقد شتم هذا وأكل مال هذا وقذف هذا؛ فترجح ميزان سيئاته.
فكنت أتمنى من الشيخ أن يقول: "مادام أنه يصلي؛ ولو مرات بعيدة، فهذا يدل على بقية خير، ولعل له من الأعمال الصالحة ما يمحو هذا التقصير أو هذا الذنب، فأكثروا له من الاستغفار والصدقة والدعاء، والله واسع المغفرة". علماً بأن المرأة قد ذكرت ما يفيد أن زوجها المتوفى رحمه الله لا يجحد وجوب الصلاة وفرضيتها، وأنه كان يصلي أحياناً بعيدة ولكن يتركها للكسل.
وأقول رداً على هذه الفتوى: استغفروا لآبائكم وأمهاتكم وقراباتكم حتى ولو كانوا من تاركي الصلاة، فرب أعمال لهم تخفى عنكم يكون ميزانها عند الله عظيماً، والله وسعت رحمته كل شيء. فإن الله قد ذكر أموراً تنفع يوم القيامة؛ مثل
(هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم)؛ فالصدق أعظم من الصلاة؛ وقال كذلك (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)؛ فالقلب السليم أعظم من الصلاة؛ فلم يقل الله (هذا يوم ينفع المصلين صلاتهم)؛ ولا يقال (إلا من أتى الله بصلاة)؛ فهذان الأمران على االأقل، أعني الصدق والقلب السليم؛ ميزانهما يوم القيامة أثقل من الصلاة، وهذه آيات كريمة ، ليست أحاديث ولا فتاوى، وسنتوسع لاحقاً في (مكانة الصلاة بين ألأوامر الإلهية)؛ أي بين الأوامر الأعلى منها، والأوامر الأقل منها)؛ حتى نعرف أن تارك الصلاة ربما حقق أوامر إلأهية أعظم منها، فيعوض الله بها عما هو دونها من أعمال.
وفي قصة هذه المرأة تقول: بلى يجوز للمرأة أن تستغفر لزوجها وتتصدق عنه وتدعو له، فقد وعد الله بغفران الذنوب جميعاً إلا الشرك، ومادام أن زوجها ليس مشركاً فالذنوب الأخرى يمكن أن تغفر، وعلى هذا يجوز أن تدعو الله أن يغفر له، ولا دليل على منع الاستغفار لأحد إلا للمشركين فقط، وليس أي مشرك؛ فالشرك نسبي، إنما الشرك الممنوع من الاستغفار لصاحبه هو ذلك الشرك الصارخ؛ كشرك آزر أبي أبراهيم؛ الذي تتيقن يقيناً أنه شرك يبعث على المعاداة والفتك بالمؤمنين؛ كما فعل آزر وقومه؛ من محاولة الفتك بإبراهيم عليه السلام وإحراقه.
قال تعالى ( {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)} [التوبة: 113 - 115]
فذكر الله مثال أبي إبراهيم هنا، وليس أي شرك؛ فهناك أنواع دقيقة من الشرك منتشرة بين المسلمين، كاتباع الأحبار والرهبان وطاعة السادة والكبراء واتخاذ الأنداد الذين يحبونهم كحب الله .. بل والرياء - ومن يسلم من دقيق الرياء؟ - فهذه أنواع من الشرك الدقيق؛ ولا تمنع من الاستغفار لأصحابها أيضاً؛ فالمسلم لا يكاد يخلو من شرك، إنما نعم؛ يحرم الاستغغفار لذلك النوع الصارخ الواضح من الشرك؛ كشرك أبي إبراهيم ، الذي يتوفر عند اليقين أنه من أصحاب الجحيم، لأن صاحب ذلك الشرك الصارخ كان بجوار نبي يكذبه ويعاديه على دعوة الحق.
لذلك؛ لا أشك أن فتوى الشيخ باطلة وشديدة على كل من مات له مفرط في الصلاة، ولا دليل له على فتواه إلا أدلة حديثية ظنية ليست بقوة الأدلة القرآنية، ولا تصمد للنقد؛ لا المتني ولا الإسنادي.
وسنستعرض في الجزء الثاني ألأدلة التي يحتج بها بعض الفقهاء على (كفر تارك الصلاة) ونبين أنها إما غير صحيحة أو أن مفهوم الكفر هو الكفر النسبي؛ كالتفاخر بالأنساب والنياحة على الميت، فهذا كفر نسبي - إن صح الحديث في تكفيره - وليس كفراً مخرجاً من ملة الإسلام، ولو كان التفاخر بالأنساب؛ مثلاً؛ كفراً؛ لحرم الاستغفارلأغلب المسلمين اليوم ، وحرموا من الدفن في مقابر المسلمين ..الخ.
الموضوع القادم:
مكانة الصلاة في القرآن، والمقارنة مع الأحاديث.
- يتبع-