عندما تغيب المناهج تحضر المذاهب .!
الشيخ حسن فرحان المالكي عندما تغيب المناهج تحضر المذاهب .!بقلم/
فهد سلطان
الجمعة 27 يناير-كانون الثاني 2012
ما زلت مندهشاً كثيراً للتحول الكبير في خطاب الشيخ الجليل حسن بن فرحان المالكي الكاتب والمؤرخ المعروف والباحث في التراث الإسلامي , يأتي هذا الاندهاش من التحول السريع في الخطاب والتخلي عن المنهج الذي عكف على كتابته سنوات ,وهذا التغير في الخطاب نلمسه في السنوات الثلاث الماضية .!
لا يهمني أن يتحول الكاتب أو الباحث أو يتنقل أو ينتمي إلى أي مذهب أو حزب أو فئة أو فرقه .. فهذا حقه لا يخاصمه عليه أحد .!
ولكن الذي لا زلت غير متفهم له هو التغير في أسلوب الخطاب (اللهجة ) تجاه المخالفين له سواء في التاريخ أو المعاصرين له .
نقول ذلك ونحن نستحضر تلك المقدمة في كتابه الشهير «قراءة في كتب العقائد», والتي كنت ومازلت أعتقد أنها إلهام رباني كتبت في لحظة صفاء روحي وتجرد كبير إلا للحقيقة , وهذا ما شاطرني به الكثير..
بل لا أكون قد بالغت أني أعدها من أهم المقدمات التي أطلعت عليها في حياتي باستثناء بعض مقدمات طه حسين لبعض الكتب لمفكرين في زمانه, ومع أنه أكد في كتابه أنه ما زال حنبلياً وسلفياً ومن قال بغير ذلك , فإنه في طبعات متأخرة تابعتها من موقعه الخاص بحيث تم حذفت تلك الجملة القوية التي تخبر عن تحدي الواثق بما يقول كنوع من التأكيد على عدم التأثير في الفكرة .
وأتذكر انه حصل بيني وبين أحد الإخوة المتعصبين نقاش حاد وشديد حول تحول الشيخ المفاجئ إلى المذهب الأثني عشري (الإمامية) مع إيماني أن الانتماء حرية شخصية وقرار يتخذه الإنسان وحرية العقيدة تؤكد ذلك ليس داخل المذاهب بل حتى الانتقال من دين إلى آخر , ما دام أن القضية متعلقة بإيمان الشخص وإرادته الحرة التي لن يحاسبه عليها إلا الله وحده .
ومن هنا لا يعنيني التحول بقدر ما كنت أجد تلك تهمة لا طائل لا استسيغ إنزالها على شخص أعرفه كثيراً , وهذا لا يعني ذلك أني منتقص أو متحامل للشيعة الإماميه فهذا حقهم في الانتماء قد نتفق ونختلف, وليس بيننا وبين أي شخص أو مذهب عداء وليس من سبيل سوى الحوار وإقامة الحجة بالحجة بأسلوب راقٍ خالٍ من التكفير والتخوين والتأله على الناس فندخل ذلك الجنة وذك النار..!
ومن هنا كانت تلك التهمة تستثيرني كوني قرأت للشيخ مناظرة مطولة مع نعمان الصدر وهو أحد أقطاب المذهب الشيعي ( الإمامي) وهي تكفي لدحض الاتهام جملة وتفصيلاً لما يقوله صاحبي خطأً عن الشيخ بغير علم أو لغرض التشويه وما أقسى التشويه وأثره على النفس وما أسرع تصديق الناس للشائعات ورواجها بينهم. وهذا ما استثارني وأنكرته كل الإنكار كوني كذلك مطلعاً على كتبه بشكل جيد , بالإضافة إلى أني أستحضر تلك المقدمة دائماً والمنهج الذي يسير عليه في نقد التراث الإسلامي السني والشيعي بوجه خاص وكيفية التعامل كباحث مع هذه التركة الضخمة , وهروب الباحث من المذاهب والفرق ونزوعه إلى الحرية الفكرية التي هي صمام الأمان كي يصل الباحث إلى الحقيقية دون أي تحيزات مذهبية أو طائفيه .
لا أجدني إلا أن أقول: لقد عشت مع كتب الشيخ حسن المالكي أحلى اللحظات وأمتع الأوقات وكانت ولا زالت تلك المقولات وذلك المنهج حديثي في أكثر من ندوة ومجلس مشيداً بها ومتأثراً بها كل التأثر كونها تخاطب العقل والروح معاً, أقول ذلك كوني مهتماً بالمراجعات في الفكر الإسلامي وأجد أن باب المراجعات هو الجدير بتفكيك وإعادة ذلك البناء من جديد, وكانت تلك الكتب تروي العطش بالنسبة لي , بالإضافة إلى كتب وأبحاث لمفكرين كبار في العالم الإسلامي والعربي لها بصمات لا تنكر في هذا الطريق ..
وقد تفاجأت عندما رأيت الشيخ قبل عام على إحدى القنوات مع شخص آخر في الاتجاه الآخر له, وجدت الشيخ حسن يتعامل مع خصمه بحده وقسوة أوقفتني كثيراً , ودهشت لها , حيث خاطب الشيخ خصمه بأسلوب شديد وجارح وقلت حينها: ربما أن الشيخ قد زل من حيث لا يشعر أو أنه في لحظة غضب انزلق إلى ذلك من دون قصد.!! وتمنيت حينها أن يلهم الشيخ فيعتذر لخصمه عن ما بدر منه, ليس من أجله بقدر ما هو تعميق للمنهج الذي دشنه في كتبه وحرصه هو حسب كلامه على السير عليه, ولكن ذلك ما لم يحدث.!!
كانت لي عودة إلى موقعه الخاص في الأنترنت مراراً أتابع مقالاته وأخباره, غير أني قبل بضعة شهور تأكد لي أن الشيخ قد التحق بالمذهب الزيدي أحدى فرق الشيعة حسب ما تقول كتب التاريخ , وتأكد ذلك عندي وبما لا يدع مجالاً للشك , وليس هذا محل اعتراض على الانتماء فهذا حقه لا ينكره عليه أحد كما أسلفت .
استوقفني هذا التحول , كوني أدرك أن الحرية خارج المذاهب أقوى وأجمل وأضمن من داخلها , ومع هذا التغير والانتقال بدأت أتابع تغير في أسلوب الخطاب بل بصورة تناقض بعض الشيء ما كتبه في مقدمة كتابه الشهير أو ما عرفت عن منهجه في كتبه الأخرى , وهذا هو محل العتاب مع الشيخ لا أكثر.
وقد تابعت بعض من تعليقاته ومنشوراته على الحائط الخاص به وتفاجأت من حجم التغير والتحول الكبير الذي طرأ على الشيخ المالكي.
لقد وجدت ما دعاني إلى التوقف , فقد تأكد لي أنه لا يقول ما يخرج عن منهجه بقدر ما يصادمه بل يهدم ذلك البناء السابق له بكل ما تعني الكلمة من هدم.
لقد أحزنني ذلك وحق لي أن أحزن , كون ذلك القلم كان يمثل بصيص أمل للخروج من هذا الواقع الذي يستهلك أوقاتنا وحياتنا في الدفاع عن مذاهب وعقائد ليست سوى معارك سياسية غلفت بغطاء الدين, وخرج الإسلام في الغالب منها منهزماً .
من حق الناس أن يتجمعوا تحت أي مذهب ولكن الأجمل والأحسن للباحث الصادق العيش في رحاب الاستقلالية .! ما زلت أتذكر أحد الباحثين هنا في اليمن حين قدم له سؤال لماذا تركت الحزب الفلاني , فقال: أبحث عن سقف مرتفع للحرية كي أرى الجميع ويراني الجميع .
إن الباحث كلما ابتعد عن التحيزات كلما اقترب من الحقيقة , أو تعرف عليها بسهولة , فلا نحتاج اليوم إلى مزيد من المذاهب والتمذهب بقدر ما نحتاج إلى نقد لكل هذا الركام في التاريخ الذي تحول بفعل الزمن إلى دين يزاحم دين الله وأننا كما ندعو الناس إلى تأطير أنفسهم في أحزاب ومذاهب ندعو بالقدر نفسه ألباحثين الذين تعرفوا أو امتلكوا مناهج في البحث إلى التحرر من هذه القوالب والخروج من هذا الفضاءات الضيقة إلى فضاء الاستقلالية كي يرى الجميع بعدسته الواسعة , فيتابع سيرهم عن قرب ويرصد أخطاءهم, فيرشدهم ويعرفهم بالطريق الصحيح ويرسم معالم السير إلى الحقيقة بصورة سهلة وممتعة .. إن عودة الباحث إلى ما كان بالأمس يذمه ويمارس ما كان بالأمس يلعنه ليس سوى ردة حقيقية وانحراف واضح عن طريق الجادة .
أنك لتندهش عندما ترى تلك المفاهيم التي سطرتها أنامله والقواعد التي أرسى بناءها في نقد التراث والتعامل مع الخاص وتفكيك التعصب من خلال البحث عن منابته ونقدها وتعريتها أمام الناس .
إنك ستلحظ تلك الردة في خطابه وكتاباته والتي تعكس لغة التحامل وسوء الظن ولغة التنقيص من الأشخاص والاستعلاء على الآخرين وسيل التعميمات التي ينكرها كل صاحب فكر حر أو ضمير يقظ.
فمع أني أعرفه كاتباً لبقاً ومحاوراً من الطراز الرفيع فقد سخر جزءاً من تلك المهارات في الاتجاه الخطأ . وأجدني اليوم متمسكاً بمنهج الشيخ وكتبه السابقة , ومخالفاً لما يكتبه اليوم على الأقل متعجب من تغير الأشخاص على حساب المبادئ والقيم .
أجد نفسي متفهماً لقراراته فهذا حقه , ولكن ذلك المنهج الرصين في كتبه حول النقد والتعامل مع الآخرين وتفكيك التعصب ملك لي لا اقدر على التنازل عنه , أو الانقلاب عليه أو تجرني نفسي لأنقلب عليه رد فعل على انقلابه هو ضد منهجه. !
أجد نفسي متفهماً بعض الشيء من أن الإدمان لكتب التراث والغوص فيها بقوة دون أخذ قسط وافر من العلوم الأخرى أو الاستجمام في شواطئ الأدب والفن تؤثر على مسار الشخص وفكره , بل تلفح عليه شيئاً من شواظها , تعرف ذلك فيما بعد وقد لا يدرج ذلك الشخص نفسه.
أستاذي العزيز حسن المالكي, أحسنت صنعاً عندما صغت ذلك المنهج الجميل ونجد أنفسنا اليوم ننطلق إلى آخر ما قلت من أن العبرة بقوة المنهج لا بالشخص نفسه .