تلك الفئة المثالية... لتدمير التواصل الإنساني (2)
الشيخ حسن فرحان المالكيجريدة الكويتية
خلق الله هذا الإنسان لعلل تختلف عن خلق غيره من المخلوقات، ومنها علة الابتلاء (... ليبلوكم فيما آتاكم/ ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)، بينما غير ذلك من المخلوقات ـ إلا الجن - بين مجبول على الطاعة والتسبيح كالملائكة أو ملعون في الدنيا والآخرة كالشياطين، وهناك علة العبادة (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، وهذه العلة لا تكون إلا بعد الابتلاء (فيما آتاكم) وليست كعبادة الملائكة.
وهناك علة يغفل عنها الكثير من الناس، وهي علة «التعارف» كما في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/13، 14)، فهذه العلة تعود في الظاهر على الجميع، على أصل الخلق وعلى جعلهم شعوباً وقبائل، هذا في ظاهر الآية ومن خصص هذه العلة بجعل الناس شعوباً وقبائل فلا بأس، فالهدف الإلهي في الحالتين ألا وهو «التعارف».
فهذا التعارف هدف إلهي، لأن التعارف وسيلة لتطور المعرفة وعمران الأرض وتلاقح الأفكار وتبادل الخبرات وتحقيق معنى الإنسانية، والاستفادة من هذا الكون كله، والأرض وما عليها خلقه الله لبني الإنسان (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا (البقرة/29 ) فكيف يستطيع الإنسان أن يعمر الأرض ويطوع المخلوقات لخير الإنسانية إن لم يعتمد «التعارف».
والغلاة قطعوا هذا التواصل مع بني الإنسان، وحشروهم في النار وأوجبوا بغضهم ومحاربتهم وألصقوا ذلك بشرع الله ودينه، مع أن نص الله واضح أن المحاربة والبغض والبراءة إنما هي من المحاربين المعادين فقط (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) (البقرة/190).
وكل الآيات في القتال تندرج تحت هذه الآية الدستورية.
كما أن حكمهم على غيرهم من بني الإنسان بالنار مخالف أيضاً لعدل الله (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)، ولعالمية القرآن في هذا الموضوع (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [النساء/123).
والحشد القرآني في هذه الموضوعات أكثر من أن يحصر، لكنهم يذهبون للمتشابه ولا يرجعونه للمحكم وهذا موضوع منفصل قليلاً وقد توسعنا في كتابنا «حرية الاعتقاد في الكتاب والسنة – طبع».
بل أكثر من هذا أن الله أمر بالتواصل مع الكفار المحاربين والتعاون معهم على البر والتقوى وإنصافهم، فقال تعالى (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (المائدة/2).
هذه الآية تأمر بإنصاف المشركين الكفار المحاربين، بل والتعاون معهم على البر والتقوى، والبر يختص بالقرابة والتقوى تختص بالسلم.. فظاهر الآية في هذا ومن خصصها في المسلمين فيكفي المتفق عليه من ( منع الاعتداء) على المحاربين وتحريمه، والآيات في وجوب العدل معهم كثيرة.
وبعد أن قام الغلاة بقطع التواصل مع بني الإنسان، مسالمهم ومحاربهم وأمروا ببغضهم وهجرهم، بدؤوا يفتكون بالتواصل بين المسلمين، ويقطعون أوصالهم، ويحكمون عليهم بالنار إلا فرقة واحدة يتشددون في شروطها لتنطبق على فرقتهم، بينما يجعلون من التألي على الله إن اجتهد فرد وصدق بنص يراه صحيحاً في الحكم على ظالم بالنار، بينما هم يحكمون على أمم من المسلمين ومن غيرهم بالنار ولا يرونه تألياً!
وهم يختارون لأنفسهم الأسماء الزاهية والبراقة ويختارون للآخرين الأسماء القبيحة والمحرفة، ويزعمون أنهم أهل صدق وعدل وإنصاف.. مع تسميتهم أنفسهم بأنهم أصحاب (وصال وتواصل وحوار وتعاون على البر والتقوى)، فهم ينسبون لأنفسهم كل المعاني الجميلة ويطبقون أضدادها.
يقولون نحن مع القرآن وهم قتلة التدبر والبحث في القرآن، ولا يأخذون منه إلا ما ظنوا أنه يشبههم.
وأنهم مع السنة وسنتهم مذهبية لا نبوية، فهم ضد المتواتر ومع الضعيف الذي ينصره غلاتهم الأولون.
وأنهم مع السلف الصالح، وهم في الجملة خلف سلف ليس صالحاً، وأما الصالح من السلف فهم مع أخطاء السلف لا صوابهم، والسلف بشر ليسوا أنبياء ولا ملائكة، فافتخارهم باتباع من يصيب ويخطئ وتشنيعهم على من يتبع القرآن والنصوص من غرائبهم التي لا تنتهي!
وأنهم مع العقل مع أنهم يذمون به حتى أصبحت كلمة (عقلاني) شتيمة، وليس لهم إنتاج في العقل ونصرته، حتى نصدق أنهم مع العقل.
وأنهم مع الصحابة مع أنهم يحبون من قتلهم أو لعنهم على المنابر أو استباح أعراضهم في المدينة أو حرمهم عطاءهم وحقوقهم، بل يغلون في الدفاع عن تلك المظالم.
وأنهم أهل البيت وهم يذمون من أحبهم ولو كان من داخل صفوفهم، فيطردونه من تلك الحظيرة.
وأنهم مع الحوار وأدبياتهم ترى حرمته، ولكن عندما اضطروا إليه أفسدوه بأخلاقهم وضحالة علومهم.
وأنهم مع التواصل بينما الواقع أنهم أهل تدابر وتهاجر وتنازع..
وأنهم مع حفظ الدماء.. وهذه طرفة يصدقها من لا يعرف تراثهم الخاص ولا جهادهم الميمون.
والغلاة طابور طويل... أولهم يصافحك وآخرهم لا ينسى البسملة عندما يذبحك.
وكل هذا البلاء الذي فيهم والذي عمموه على كثير من الناس يدور حول محورين اثنين: الجهل أو المخادعة.
فبعض الغلاة فعلا يجهل نفسه والنسق الفكري الذي هو فيه، فيغتر بالكلام الزاهي المخادع ولا يمتلك روحاً بحثية نقدية تكشف حقيقة هذه النظريات الزاهية.
وبعضهم مخادع وهم قادة الفكر، فهؤلاء يعرفون لكن شهادتهم لأنفسهم لا لله.. فقد سقطوا في أعلى التوحيد وأشغلونا بأسافل الآراء، هؤلاء يحتاجون لحوار جاد، ومناظرات كاشفة وصبر طويل، واحتساب كل الأذى عند الله.
وهنا المشكلة الثانية أن معارضيهم من المعتدلين من بني مذهبهم يجاملونهم مجاملة العاقل للمجنون، ويريدون بهذا حماية أنفسهم من بذاءاتهم وتصنيفاتهم وأذاهم، والمعتدلون بهذا التراخي يقعون في شيء من ذلك الذنب، لأنهم يحمون أنفسهم وإن دمر هؤلاء الغلاة مفاهيم الإسلام الأول، وهم يعرفون أن الأنبياء لم يحموا سمعتهم ولا جاههم ولا مصالحهم، والأنبياء من أحرص الناس على سمعتهم، وهم يحبون سمعتهم كما نحب سمعتنا، لكن إذا أتى أمر الله فلابد من الإنفاق منها لله، (لن تنالوا البر
حتى تنفقوا مما تحبون).
للحديث بقية